الأحد، 14 سبتمبر 2008

تطور الفكر الاداري والمداري الادارية

تطور الفكر الإداري والمدارس الإدارية

*** المدرسة الكلاسيكية في الإدارة (القديمة) وتشمل :-
1 – الإدارة العلمية .
2 – البيروقراطية .
- الإدارة العلمية : تطور الفكر الإداري سميت على أساس علمي (المنشأة والتطور في أمريكا على يد الأمريكي " فردريك تايلور" والفرنسي "هنري فايول" في بداية القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر على يد هؤلاء المفكرين وكان اهتمام تايلور في زيادة الإنتاجية
* المرتكزات العلمية التي قامت عليها الإدارة العلمية :
1 – وجب تحقيق الكفاية الإنتاجية .
الكفاية الإنتاجية هي النسبة بين كمية الإنتاج وجودته وسرعته وبين الموارد المستخدمة للحصول عليه ، أي أنها النسبة بين النتائج والتكاليف .
2 – البحث العلمي . وتعني اللجوء إلى الملاحظة والتجربة وخضوع العمل للبحث العلمي والمعرفي بدلاً من الاعتماد على الآراء التقليدية القديمة .
3 – القواعد والأصول .
4 – تقسيم العمل والتخصص به .

رواد الإدارة العلمية .
1 – فردريك تاياور : من أهم كتب تايلور في موضوع الإدارة كتابه "مبادئ الإدارة العلمية" حيث لخص تايلور رأيه في واجبات المديرين قائلاً ان عليهم :-
- إحلال الطرق العلمية القائمة على التجارب محل الطرق البدائية القديمة .
- الفصل بين التخطيط بين تنفيذ الخطط .
- اختيار العمال وتدريبهم حسب الأساليب العلمية ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب .
- تعاون الإدارة مع العمال لإنجاز الأعمال .
- العدل في تقسيم المسؤوليات بين المديرين والعمال .

2 – هنري فايول : هو عالم إدارة فرنسي معاصر لفردريك تايلور ولكنه عاش في فرنسا ويرفعه الكثيرون من كتاب الإدارة إلى مرتبة الأب الحقيقي للإدارة الحديثة كمنطق لدراسة طبيعة الإدارة حيث قسم فايول أنشطة المنشأة في كتابة المشهور " الإدارة العامة والصناعية" إلى ست مجموعات :
1 – أنشطة فنية (انتاج)
2 – أنشطة تجارية (شراء وبيع ومبادلة)
3 – أنشطة مالية (البحث عن رأس المال والاستخدام الأمثل للأموال)
4 – أنشطة الضمان والوقاية (حماية الممتلكات والأشخاص)
5 – أنشطة محاسبية (وتتضمن الإحصاء)
6 – أنشطة إدارية (تخطيط ، تنظيم ، إصدار أوامر ، التنسيق ، الرقابة).
مبادئ الإدارة وعناصرها عند فايول :
هذا الاتجاه يرتكز على الاهتمام بالوظائف الإدارية وأنشطة المنظمة
المبادئ الإدارية لفايول : هي اعتقادات وأفكار لخصها في 14 مبدأ لتحسي الممارسة الإدارية :
1 – تقسيم العمل .
2 – السلطة والمسؤولية : وهي الحق في إصدار الأوامر وإلزام الآخرين بها . ولا يمكن أن يتجزأ في العمل الإداري السلطة والمسؤولية (المحاسبة).
3 – النظام : وهو احترام الاتفاقيات والنظم وعدم الإخلال بالأوامر .
4 – وحدة إصدار الأوامر : أي أنه لا يجوز أن يتلقى الفرد العمل أوامر من أكثر من رئيس أو مشرف واحد.
5 – وحدة التوجيه : وتعني أنه يجب أن تشكل كل مجموعة من الأنشطة ذات الهدف الواحد وحدة تنظيمية يديرها رئيس واحد .
سؤال : ما الفرق بين مبدأ وحدة التوجيه ومبدأ وحدة إصدار الأوامر ؟
جواب : إن مبدأ حدة التوجيه يتعلق بالتنظيم الإداري بينما يتعلق مبدأ وحدة إصدار الأمر بالأفراد العاملين .
سؤال : ماذا يقصد بالتوازن بين السلطة والمسؤولية ؟
جواب : هو أن تعطى السلطة بقدر المسؤولية .
6 – خضوع المصلحة الشخصية للمصلحة العامة : وتعني أنه عندما تتعارض المصلحة الشخصية للفرد العمل مع المصلحة العامة للمنشأة يجب التوفيق بينهما على أساس خضوع المصلحة الشخصية لمصلحة المنشأة أو للمصلحة العامة .
7 – مبدأ المكافأة والتعويض : وتعني أنه يجب أن تكون مكافآت الأفراد وتعويضاتهم وأجورهم عادلة بحيث تستطيع تحقيق رضاهم عن العمل وأصحابه .
8 – المركزية .
9 – تدرج السلطة : والمقصود بها تسلسل السلطة من أعلى إلى أسفل الهرم التنظيمي . بحيث يكون حجم السلطة أقل كلما انخفضا في الهرم الإداري .
10 – الترتيب : هو أن كل مجموعة من الأشخاص والمعدات المخصصة للقيام بعمل معين يجب أن توضع في نفس الموقع في المنظمة من أجل تحقيق الكفاءة والتنسيق ، ويقسمه فايول إلى :
أ – ترتيب مادي ويشمل ترتيب الأجهزة والمواد والمعدات .
ب – ترتيب اجتماعي ويشمل تنظيم العلاقات الإدارية بين العاملين في المنشأة .
11 – المساواة في المعاملة : أي عدم تحيز الرؤساء في معاملتهم للمرؤوسين .
12 – الاستقرار في العمل : ويعني المحافظة على استمرار العاملين ذوي الإنتاجية في المنظمة لفترة طويلة .
13 – المبادأة : معنى هذا المبدأ بالنسبة لفايول هو التفكير في الخطة وتنفيذها ويطالب فايول أن على رؤساء العمل تشجيع المبادأة والابتكار بين المرؤوسين .
14 – التعاون : أي روح الفريق انطلاقاً من شعار " الإتحاد قوة ".

3 – هنري غانت : اتفق مع تايلور بالكثير من نظرياته العلمية إلا أنه اختلف معه في نظرته الإنسانية تجاه العمال .
4 – فرانك وليليان جلبرث .
تقسيم الإدارة العلمية :
أ‌- تقييم أراء تايلور: تشكل الفرضيات التي تبنى عليها تايلور ما يعرف بنظرية الرجل الاقتصادي وعناصر هذه النظرية هي (عناصر نظرية تايلور) :-
1 – الإنسان أناني في طبعه .
2 – الإنسان كسلان في طبعه .
3 – الكسب المادي حافز هام .

ب‌- تقييم أراء فايول .
جـ - الانتقادات الموجه للمدرسة العلمية . ومن أهم هذه الانتقادات :
1 – نظرتها إلى العامل .
2 – إهمال النواحي الإنسانية .
3 – اقتصارها على مستوى العمال في المصنع الصغير .
4 – التنظيم الوظيفي .
5 – نظرتها للتنظيم غير الرسمي .

* الإدارة العلمية تتركز على اختيار وتدريب العاملين والمشرفين ودعمهم بالتخطيط السليم .

- البيروقراطية : كلمة البيروقراطية مأخوذة من كلمة Bureau الفرنسية ومعناها مكتب . فالبيروقراطية تعني حكم المكاتب وقد جاء بها العالم الألماني ماكس فيبر .
كلمة بيروقراطية لها معنيان متغيران :


خصائص البيروقراطية :
1 – عدم التحيز .
2 – تقسيم الأعمال وتنميطها .
3 – تدرج الوظائف في مستويات السلطة .
4 – استخدام الخبراء .
5 – القواعد والتعليمات .
ومن الفوائد التي تنتج عن وضع الأنظمة والقواعد والتعليمات ما يلي :
أ – الوحدة وعدم التباين في أداء الأعمال المتشابهة .
ب – عدم التحيز في المعاملة .
جـ - تحمي المرؤوس من تعسف الرئيس .
6 – التدوين الكتابي .
7 – وجود نظام خدمة .
8 – التفريق بين دور الموظف الرسمي وعلاقاته الشخصية .
9 – السرية .
ويقول ماكس فيبر انه إذا ما توافرت الخصائص السابقة في التنظيم تصبح المنشأة رشيدة وقد أطلق فيبر لفظ البيروقراطية على الأجهزة الحكومية بينما أطلق لفظ الإدارة على المنشآت الاقتصادية .
تقييم البيروقراطية .
تعتقد معظم الناس أن النظام البيروقراطي نظام إداري غير فعال ، وهذا الاستدلال يعود إلى الممارسات الخاطئة في تطبيق الأنظمة البيروقراطية وليس إلى جوهر النظام البيروقراطي نفسه. فالخطأ ليس في النظام البيروقراطي وإنما هو عائد على من يطبقون هذا النظام ، وأهم الأخطاء عند تطبيق النظام البيروقراطي ما يلي :
1 – الوسائل تصبح غايات .
2 – الجمود وعدم المرونة .
3 – الروتين .
4 – المظاهر والرموز .
5 – مقاومة التغيير .
6 – المرض البيروقراطي .
سؤال : ماذا تعني كلمة بيروقراطيين ؟
*** المدرسة السلوكية .
اهتمت هذه المدرسة بدراسة الفرد والجماعة أثناء العمل ذلك من أجل زيادة الإنتاجية . وقد كان لهذه المدرسة ثلاثة مداخل لدراسة السلوك:
1 – علم النفس .
2 – علم الاجتماع .
3 – علم دراسة الإنسان .
حركة العلاقات الإنسانية .
ترى أن المدراء يستخدمون علاقات إنسانية جيده لغرض الوصول إلى الإنتاجية .
دراسات هوثورن :- هي مجموعة من الدراسات والتجارب من شركة وسترن الكتريك فتحت المجال لتّركيز على الجوانب الإنسانية والسلوكية في إنجاز العمل .

*** المدارس الحديثة .
وهي مجموعة متنوعة من المداخل لدراسة الإدارة نشأت مؤخراً وهي :
أ – مدرسة علم الإدارة :- هذه المدرسة توفق بين اهتمام الإدارة العلمية بالإنتاج وكفاءة الأفراد والآلات وعملية التخطيط (تعتبر الكفاءة إنجازاً يتبع التخطيط السليم) .
هذه المدرسة تطبق : 1 – التحليل العلمي على المشاكل الإدارية .
2 – تحسين قدرة المدراء على اتخاذ القرارات .
3 – إعطاء أهمية كبيره بمعيار الفاعلية .
4 – استخدام الحاسبات الإلكترونية في الإدارة .
وعليه ساهمة هذه المدرسة في معالجة العديد من المشاكل المتعلقة بالنقل والتخزين والتوزيع .
ب – الإدارة بالأهداف : وهي للعالم النمساوي (تيردركير) وتقدم هذه الإدارة على فرضية المشاركة في وضع الأهداف حيث تعمل الإدارة على إشراك جميع العاملين ما أمكن وذلك في تحديد الأهداف الإستراتيجية ووضع القرارات وتحديد النتائج المتوقعة والعمل سوياً في تحقيق هذه الأهداف .
الفصل الأول
علم السياسة بين إشكالية المناهج المختلفة
1.1 مقدمة:
كان علم السياسة وحتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عبارة عن مجموعة من الأدبيات المعيارية Normative والاستنباطية Deductive التي كانت تنصب في مجملها حول وضع تصورات عن الوضع السياسي الأمثل وكيفية إقامته منطلقة في الغالب من مقدمات يغلب عليها الطابع الفلسفي.
ولقد ظل هذا هو الوضع السائد حتى فترة نهاية القرن التاسع عشر الميلادي والذي شهد فيه علم السياسة الارهاصات الأكاديمية الأولى لخلق كيان متميز له. فقد كانت محاولة فصل علم السياسة عن الحقول المعرفية الأخرى التي كانت ترتبط به في الغالب كالتاريخ والفلسفة والقانون هي بمثابة اللبنة الأولى في هذا الاتجاه، والذي دعم فيما بعد باستحداث أقسام أكاديمية متخصصة لعلم السياسة في بعض من الجامعات الغربية.
لقد عرف علم الساسة حينئذ على أنه " علم الدولة " وكان المنهج المتبع في الغالب منهجاً " استنباطياً "، أما المهمة التي كانت ملقاة عن كاهل هذا العلم والمشتغلين به فهو محاولة تطوير المؤسسات الحكومية ووضع حدود مفهوم " المواطنة " وتبعاتها. ولعل أنه من الملفت للنظر أن هذا المفهوم ظل مرتبطاً بعلم السياسة حتى وقت قريب(1).
وفي الوقت ذاته كان للثورة الفرنسية وما أعقبها من تطورات أهمها بدايات الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا حينئذ دوراً مهما في إثارة مجموعة من التساؤلات المهمة التي تدور في إطار محاولة معرفة المتغيرات المؤثرة في مجريات التغيير السياسي كالعادات والتقاليد وأنماط السلوك والتراكيب الاجتماعية السائدة ودورها في عملية البناء الاجتماعي، ومن ثم انعكاساتها على مجرى الحياة السياسية. ولعل كتابات ماركس، وفيبر، وإيميل دور كليم، ومنتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم كانت بمثابة المحاولات للإجابة على مثل تلك التساؤلات(2).
ولقد ظل هذا هو حال علم السياسة حتى بداية القرن العشرين، ولعل المتغير الوحيد الذي يمكن ملاحظته على مسار هذا العلم أبان تلك الحقبة، هو الاتجاه إلى المنحى الدستوري المفتقر إلى وضوح في الأسلوب التحليلي في المعالجة، وبالتالي فلقد ظلت الفجوة قائمة بين الواقع السياسي للدولة ونظامها الدستوري.
خلال فترة ما بين الحربين العالميتين شهد علم السياسة ثلاثة من أهم النقلات النوعية في مساره. فلقد شكلت كتابات تشارلز ميريام، وهارولد لاسويل، وكابلن، وستيوارت مل أولى هذه النقلات. فبدلا من التركيز على الجوانب الهيكلية والقانونية للمؤسسات السياسية اتجه الجهد نحو وضع أسس علمية جديدة لمسار هذا العلم تنطلق من تقرير حقيقية أن هذا العلم يتعامل مع الإنسان بكل ما أودعه الله فيه من ميول ونزعات وأهواء وطبيعة متقلبة. ولذلك فقد كان من الطبيعي جداً أن يزداد ارتباط هذا العلم بعلوم النفس، والانتروبولوجيا، والاجتماع، والاقتصاد، والأساليب الكمية وغيرها من أفرع العلوم الاجتماعية الأخرى ذات الصلة(3).
النقلة الثانية كانت في ظهور المفهوم أو المذهب البرجماتي Pragmatism والذي تتلخص معظم دعاويه بوجوب الاهتمام بالنتائج بدلا من التركيز على منطقية الأفكار فقط فالبرجماتية هي في أساسها نظرية فلسفية معناً وحقيقية وقيمة من منظور أن المنفعة لا تعدو إلا أن تكون في التحليل النهائي المعيار الرئيسي لكل قيمة. ولقد شكلت كتابات كل من جون ديوي، ووليام جيس، وشارلس بيرس أولى الخطوات في هذا الاتجاه (4).
أما النقلة الثالثة فقد تمثلت في ظهور مفهوم التعددية Pluralism الذي نادى بوجوب توجيه اهتمام البحث في هذا العلم بالمؤسسات التي تشارك السلطة السياسية في الوظائف السياسية العامة كالأحزاب السياسية وجماعات الضغط والمصالح ودور الأفراد والنخبة وغيرهم من الوحدات السياسية الأخرى.
خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهد هذا العلم جملة من التطورات المهمة والتي فرضتها طبيعة المستجدات السياسية التي ظهرت على الساحة الدولية. فلقد كان لظهور المعسكر الشيوعي بايديولوجيته المختلفة عن الرأسمالية وما تبع ذلك من حرب باردة بين الطرفين، ثم ظهور وحدات دولية جديدة على المسرح الدولي كنتيجة لنيل الكثير من ما سمي لاحقاً بدول " العالم الثالث " لاستقلالها، ثم قيام حركة دول عدم الإنحياز وبروز قضية التنمية كقضية محورية مهمة ذات أبعاد داخلية ودولية تأثيراً فاعلاً على مسار هذا العلم مما شكل نقلة نوعية أشبة ما تكون طبقاً لرأي الدكتور كمال المنوفي " بالثورة " (5) على مسار العلم بأجمعه.
فمن ناحية المسمى، فقد تقرر في اجتماع دار اليونسكو الذي عقد في العاصمة الفرنسية، باريس عام 1948م تسمية هذا الحقل من حقول المعرفة الإنسانية " بعلم السياسة " ليحل محل المسمى القديم " العلوم السياسية " محددين له أربع من الفروع الرئيسية وهي النظرية السياسية، والمؤسسات الحكومية والأحزاب والفئات والرأي العام، والعلاقات الدولية (6).
ثم جاء تعريف ديفيد ايستن لعلم السياسة بأنه " التوزيع السلطوي الالزامي للقيم في المجتمع " (7) لينقل حدود هذا العلم إلى كل عمل فردي أو جماعي يتعلق بسير العملية السياسية أو بتفاعلات المنتظم السياسي (8).
أما من الناحية المنهجية، فلقد ظهر الخلاف جليا بين منهجين مختلفين لدراسة الظاهرة السياسية. ففي الوقت الذي ظل فيه المنهج التقليدي Traditional Approach يتعامل مع الظاهرة السياسية من خلال الربط الواضح بين القيم والحقائق منطلقاً من فرضية سكون الظاهرة السياسية، ظهر المذهب السلوكي Behavioral Approach كواحد من أهم المناهج الفاعلة التي أخذت على عاتقها مهمة تحويل هذا الحقل إلى علم متحرر من القيم Value Free مركزاً على السلوك الفعلي للظاهرة السياسية برمتها انطلاقاً من حقيقة أن الفرد هو وحدة التحليل الأساسية.
تعرف السلوكية بأنها " البحث المنظم عن تعميمات أو قوانين عامة عن طريق صياغة النظريات التجريبية والتحليل التقني وإثباتها من أجل تحقيق ذلك الغرض " لذا فإن هذا المذهب يرتكز على قاعدتين متلازمتين هما صياغة المفاهيم والفرضيات بطريقة منظمة وما يسمى بطرق البحث الامبريقية (التجريبية) (9).
يرجع السبب الرئيسي في ظهور المذهب السلوكي إلى مجموعة من العلماء ذو الاتجاه الكمي الذين استرعت مفاهيم العلوم الاجتماعية انتباههم فانضموا إلى جامعة شيكاغو الأمريكية بهدف تأمين تمويل حكومي لأبحاثهم ذات الاتجاه الاجتماعي. لقد انطلقت دراسات أولئك الباحثين من فرضية أن دراسة الظاهرة السياسية يجب أن تصبح محررة من تأثير القيم الاجتماعية Value Free وذلك لارتباطها بتحليل مفاهيم القوة والتعدد والتأثير، وبالتالي فإن إدخال أي نوع من الأحكام القيمية في التحليل السياسي يؤدي إلى إعاقة الموضوعية العلمية المنشودة (10).
من الممكن تقسيم المراحل الزمنية لظهور الموهب السلوكي إلى ثلاث مراحل رئيسية على الرغم من التداخل الواضح فيما بينها.
فخلال المرحلة الأولى والممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية الخمسينيات لم تكن اتجاهات الباحثين واضحة المعالم على الرغم من وجود بعض المؤشرات على حدوث التغيير. منها على سبيل المثال قيام لجنة السلوك السياسي Committee on Political Behavior والمتفرعة من مجلس بحوث العلوم الاجتماعية الأمريكية Social science Research Council بإصدار سلسلة من الدراسات التطبيقية التي كانت تهدف إلى تشجيع الدراسات السياسية ذات الاتجاه أو المنهج السلوكي، وفي الوقت ذاته شهدت تلك الفترة ظهور عدد من المؤلفات التي شكلت نقلة نوعية واضحة في هذا الاتجاه منها كتاب هيربرت سايمون Herbret Simon الشهير عن الذي عالج فيه السلوك الإداري Administrative Behavior وتداخله مع السياسيات بصفة عامة، ثم كتاب هانز موقانثو Hans Morgenthau في تخصص العلاقات الدولية عن الرجل العلمي في مواجهة سياسيات القوة Scientific Man Vs Power Polities والذي ركز من خلاله على قضية التفاعل بين السياسات العلمية مرجعاً نتائجها إلى تأثير التفكير الأمريكي عن العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، وكتابي كل من سي. هيرمان عن " محكمة روزفلت " C. Herman Aitchetl : Roosevelt Court (1948)، و في. أو. كي عن سياسات الجنوب في الولاية والدولة V.O. Key Southern Politics in State and Nation (1949) واللذان تبنيا المنهج السلوكي كطريقة بحث، وفي الوقت ذاته بدأت نشرة أخبار وتعليقات News & Notes التي تشكل جزءاً من مجلة العلوم السياسية Political Science Review بنشر فقرات عن المساعدات العلمية المالية التي قدمت لبرامج سياسية ذات منهج سلوكي، وفي سنة 1948م بدأ مركز أبحاث الدراسات الميدانية Research Center Survey في عقد فصله السنوي الصيفي للتدريب على الطرق العلمية للدراسات الميدانية.
إضافة إلى ذلك، فقد كان لنتائج الحرب العالمية الثانية وما تبعها من قيام الحكومة الأمريكية بتقديم برامج مساعدات تكنولوجية واقتصادية لدول العالم الثالث دور هام في تدعيم الاتجاه نحو الدراسات السلوكية.
فلقد اكتشف القائمون على أمر هذه البرامج والتي كانت تعتبر جزءاً من برامج التنمية الاقتصادية المقدمة لحكومات دول العالم الثالث بأن الجهود المبذولة لتصدير حقول الإدارة والعلوم السياسية طبقاً للمدرسة الأمريكية قد اصطدمت بعدة عقبات لعل من أهمها عدم قابلية تلك المفاهيم للتطبيق في تلك الدول. هذا الانطباع ـ أو الحقيقة ـ كانت العامل القوي والأهم للاتجاه نحو دراسات عبر الحضارات Cross Cutural Studies والتي أصبحت أحد السمات الأساسية للمذهب السلوكي.
وفي الوقت ذاته، فقد كان لانتشار مراكز قياس الرأي العام وطرق الاستبان دور هام جداً أدى بدوره إلى إيجاد كم كبير من المعلومات مما انعكس بالتالي على استخدام المعادلات الرياضية لمعالجة هذه المعلومات ثم استخدام الكمبيوتر لسهولة التحليل عنه بالطرق اليدوية.
إضافة إلى كل ما سبق، فقد كان لعدم قناعة القائمين على برامج المساعدات المخصصة لدعم البحث العلمي كمؤسسة فورد للأبحاث Ford Foundation عن الحالة الوصفية التي وصل إليها علم السياسة، وعدم قدرته من خلال منهجه التقليدي على التنبؤ بقيام حركات الفاشية الاشتراكية و الشيوعية، أو توضيح أسباب استمرارها في الحكم، وكذلك تلك الفجوة التي كانت قائمة بين الحكمة المقبولة في العمل والحقيقة في الممارسة الحكومية والتي كان مرجعها الأساسي ذلك الاختلاف الواضح بين المهارات والقدرات النظرية لعلماء السياسة من جهة وبين طبيعة الممارسة الفعلية من خلال الأداء الحكومية من جهة أخرى، قد أدت بدورها إلى تشجيع الاتجاه نحو المنهج السلوكي، وأخيراً ظهور طرق بحث علمية جديدة للعلوم الاجتماعية الأخرى والخوف من تخلف علم السياسة في اللحاق بركب هذه العلوم.
المرحلة الثانية للمذهب السلوكي بدأت من عام 1950 إلى منتصف الخمسينات وتسمى هذه الفترة بمرحلة الاختلاف العظيم أو الفترة الحرجة لبزوغ المذهب السلوك. فقبل هذه الفترة كان المذهب السلوكي لا يعدو إلا أن يكون ميولا ولكن منذ ذلك القوت أصبح الاتجاه السلوكي أشبه ما يكون بالعاصفة التي تهدد كيان العلم ككل. فلقد صدر خلال تلك الفترة كتابان مهمان هما كتاب لاسويل وكابلن عن " البيروقراطية في النظام الديمقراطي، والأخر كتاب سايمون وتمسون عن الإدارة العامة. فبينما كان الكتاب الأول هو دراسة للسلوك السياسي استخدم المذهب السلوكي منهجا للبحث، يمثل الثاني ـ كما ذكر مؤلفوه دراسة واقعية ووصف سلوكي للعملية الإدارية ومنهما بدأت الدعوة للتركيز على الدراسات السلوكية في العلم.
أما المرحلة الثالثة فقد امتدت منذ منتصف الخمسينات وحتى الوقت الحاضر وقد تميزت هذه المرحلة بظهور الكثير من الكتب التي اتخذت من المنهج السلوكي طريقة للبحث العلمي في علم السياسة، ولعل كتابات جبرائيل الموند، وكارل دويتش، وروبرت ايكر في النظرية السياسية، وجلندون وكامبل وهوفت دول وواكي في الحكومات المقارنة، وكتابات كابلن في العلاقات الدولية هي مجموعة من أهم الأمثلة في هذا الصدد (11).

2.1 الأسس العامة للمذهب السلوكي:
مما سبق نستطيع حصر الأسس العامة للمذهب السلوكي في مجموعة من النقاط يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولاً: إمكانية قدرة علم السياسة إلى التحول إلى علم قادر على التنبؤ والتفسير. إن طبيعة هذا العلم. بحسب رأي السلوكيين يقترب كثيراً من علم الإنسان Biology منه إلى الفيزياء والكيمياء. وبإعطائه هذه الإمكانية فإن علم السياسة يجب أن يتعمق في دراسة الانتظام للسلوك السياسي مع التركيز على المتغيرات المسببة لهذا الانتظام وتتماشى في الوقت ذاته مع الطبيعة الوصفية للعلم بهدف الوصول إلى المعالجة التحليلية، العلمية الجوهرية لتطور المعرفة السياسية.
ثانياً: يجب أن يقتصر علم السياسة على دراسة الظواهر السياسية التي من الممكن ملاحظتها (ما عمل أو قيل) سواء على مستوى السلوك الفردي أو المستوى الجماعي Aggregates ولذلك ينتقد أنصار هذا المذهب المؤسس وذلك بسبب استحالة دراسة سلوك المؤسسة ككل إلا كما ترد من خلال أفعال وأقوال الأشخاص الذين يقومون بوظائف هذه المؤسسة.
ثالثاً: المعلومات يجب أن تكون كمية والنتائج يجب أن تكون مبنية على المعلومات الكمية. أن المعالجة الكمية هي السبيل الوحيد لاكتشاف العلاقات والانتظام، وعليه فإن المعالجة الرياضية هي السبيل الوحيد لبلوغ الهدف الأسمى.
رابعاً: البحث العلمي في علم السياسة يجب أن يكون منطلقاً من خلال إطار نظري صيغ بوضوح تام، وفرضيات من الممكن دراستها باستخدام المعلومات الكمية. وحيث أن النظريات يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة والمجال وتعدد الظواهر السياسية ممكنة البحث، فإن أنصار هذا المذهب يتحدثون عن ثلاث مستويات تحليلية من أنواع النظريات الدنيا والمتوسطة والعليا (العامة) بهدف الوصول في النهاية إلى ما يسمى بالنظرية الشاملة Macro-Theory القادرة على تقديم تفسير علمي لجميع الظواهر السياسية والتي تشكل الطموح للباحثين في مجال العلوم الاجتماعية عموماً.
خامساً:أن النظر إلى علم السياسة كفن كما حددها ماكيفر Macivar في تساؤلاته عن الأهداف التي تسعى الدول إلى تحقيقها والشكل الذي يجب أن تتخذه لكي تستطيع تحقيق هذه الأهداف، ثم كيفية ارتباط أنشطتها بالأنشطة الأخرى التي توجد في المجتمع والذي يعتبر تركيزاً على الجانب الأخلاقي كمعايير يجب الاحتكام إليها عند تقييم النظم السياسية، إضافة إلى النظر إلى قيم الديمقراطية والعدالة والحرية وغيرها من المفاهيم التي يركز عليها الاتجاه التقليدي لدراسة علم السياسة هي قيم من الصعوبة قياسها علمياً، ولذلك فهي خارج نطاق البحث الشرعي مما يتبعه بالضرورة أن علم السياسة يجب أن يتحاشى الخوض في دارسة ما يسمى بالقضايا العظيمة Great Issues فيما عدا الحالات التي يكون فيها السلوك مرتبط بهذه القيم وإمكانية المعالجة كحوادث تجريبية مثل أسباب الاعتقاد بالديمقراطية والطريقة التي يؤثر بها هذا الاعتقاد على سلوك أفراد في التصويت. وخلاصة القول فإن القضايا الأخلاقية والعقائدية من منظور سلوكي هي قضايا صعبة البرهنة والإثبات علمياً.
سادساً: علم السياسة يجب أن يكون علماً متداخلاً مع العلوم الأخرى. فالسلوك السياسي هو فقط شكل واحد من أشكال السلوك الاجتماعي ولذلك فإن إمكانية استفادة العلم من مهارات، ومفاهيم، وتقنية العلوم الاجتماعية الأخرى ضرورية جدا إلى الدرجة التي حدت ببعض السلوكيين إنكار كون علم السياسة علماً مستقلاً بذاته.
سابعاً: علم السياسة يجب أن يكون علماً حذراً ومنتقداً لطرق ومناهج بحته. ولذلك فإن المهتمين بهذا العلم يجب أن يكون لديهم إلمام تام واستفادة من النماذج الرياضية. والأهم هو أنه يجب عليهم تحاشي تأثير قيمهم الخاصة على مجرى العملية البحثية.

3.1 معارضي المذهب السلوكي:
لقد وجهت للدعوة إلى تبني المذهب السلوكي في دراسة العلوم السياسية عدداً من الانتقادات الجوهرية المهمة والتي تنصب في مجموعها إلى رفض مقولة إمكانية تحول علم السياسة إلى " علم " بالمفهوم الأكاديمي لهذا المصطلح وذلك لمجموعة من الأسباب يمكن إيجاز بعضاً منها فيما يلي:
أولاً: أن الظواهر التي يدرسها علم السياسة لا يمكن لها أن تقود إلى نتائج علمية واضحة تماماً، وذلك للصعوبة إن لم يكن استحالة دراسة السلوك الإنساني سواء أكان فردياً أو جماعياً بالنزاهة العلمية المجردة، مما يجعل الاتجاه نحو الدراسة التجريدية للعلوم الاجتماعية عموماً بما في ذلك دراسة الظواهر السياسية أمراً يكاد يكون مستحيلاً.
ثانياً: أن هناك الكثير من الأسباب والمتغيرات التي تحد من محاولة الوصول إلى قوانين عامة عن الانتظام السياسي، لذلك فالقوانين التي تحاول تقديم تفسير للسلوك السياسي إنما هي محاولات محكوم عليها بالفشل مسبقاً. فاستخدام الفرضيات السلوكية قد تشكل عائقاً لا يمكن الاستهانة بنتائجه في تطور مسيرة علم السياسة عموماً مما يجعل الطريقة الوصفية في بعض الأحيان تكاد تكون هي الأسلوب الأمثل إن لم تكن الأوحد لدراسة الظاهرة السياسية.
ثالثاً: أن التركيز على دراسة السلوك السياسي فقط لا يغطي سوى جزء بسيط من مجموع القضايا الأساسية لهذا العلم، فالسلوك الإنساني قد يأخذ نمطاً واحداً ولكن لأسباب وأهداف مختلفة، لذا فإن معرفة هذه الأهداف والأسباب تتطلب أكثر من مجرد الملاحظة المجردة لهذه التصرفات. إضافة إلى ذلك فإن أنماط السلوك الإنساني إنما يأخذ شكلاً أو آخر نتيجة لاختلاف التراكيب والصيغ والقواعد الاجتماعية التي يعيش الفرد من خلالها مما يجعل من أمر معرفة هذه الصيغ والقواعد والتراكيب أمراً جوهرياً لفهم وتفسير هذه الأنماط السلوكية. وعليه فإن معارضي المذهب السلوكي يرون أن الجزء الأكبر من الحياة السياسية محكومة بأنماط السلوك والتصرف الإنساني وبالتالي فمن الصعوبة بمكان الإحاطة بجميع أسبابه وأهدافه.
رابعاً: على الرغم من مزايا النظريات الكمية فإن الإحاطة بها ومن ثم تطبيقها على علم السياسة يعتبر هدفاً صعب الحصول. فالأسلوب الكمي يتطلب وجود مفاهيم محددة يمكن قياسها وصياغتها كمياً، وفي الوقت ذاته فإن علم السياسة يحوي الكثير من المفاهيم التي من الصعوبة إخضاعها للقياس الكمي.
خامساً: أن البحث التطبيقي والاهتمام بالقضايا المتعلقة بالسياسة العامة سواء من حيث الأرضية الفلسفية أو التاريخية هو أمر مراد ومشجع عليه. وعليه فإنه يقع على كاهل علم السياسة واجب أخلاقي مهم يتمثل في ضرورة إعطاء الأهمية المطلوبة بالاهتمام بالأمور المدنية. وكما أن البحوث المجردة من الممكن أن تتوصل إلى نتائج معينة وقيم تطبيقية، فإن البحث التطبيقي والمبرمج من الممكن أن يساهم في عملية الفهم الجيد للسلوك السياسي والاجتماعي.
سادساً: أن القضايا السياسية المهمة تتوسط غالباً مجموعة من القضايا ذات الطابع الأخلاقي والعرقي وعليه فإن على علم السياسة واجب الارتباط بقضايا " الصح والخطأ " حتى وإن كانت هذه القضايا صعبة الدراسة تجريبياً. وبالتالي فإن تجاهل أو عدم الاهتمام بهذه القضايا يقود إلى سؤال مهم هو شرعية وأهمية ووجود هذا العلم.
سابعاً: على الرغم من حتمية ارتباط علم السياسة بالعلوم الإنسانية الأخرى إلا أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار ضرورة المحافظة على ذاتية وشخصية واستقلال علم السياسة.
وخلاصة القول هو أن الثورة السلوكية كمنهج لدراسة الظاهرة السياسة تكاد تكون أهم تحول فلسفي ومنهجي شهده هذا العلم في العصر الحاضر. فلقد ركزت هذه الثورة على محاولة تحويل هذا الحقل إلى " علم " من خلال دراسة ظاهرة السلوك السياسي في إطار المحتوى الاجتماعي الشامل من خلال استخدام تقنيات البحث العلمي منطلقة من فرضية أن هناك إمكانية لاكتشاف ثوابت في السلوك، وبالتالي الوصول من خلالها إلى تعميمات تسمح للباحث بعملية التنبؤ العلمي.(12)، وكذلك فقد استطاع السلوكيون جعل هذا الفرع من فروع المعرفة واع لذاته يمارس نقداً ذاتياً، وبالتالي فقد ذهب الكثير من الجهد إلى عملية التقييم الذاتي للمسار السلوكي ككل وإن كان بعضه قد أتى متأخراً بعض الشيء، وفي الوقت ذاته، فلقد صاحب ظهور هذا المذهب ظهور الكثير من المصطلحات التي أصبحت تمثل جزءاً أساسياً من هذا الحقل من حقول المعرفة وأوجبت حتمية التداخل فيما بينه وبين العلوم الاجتماعية الأخرى.
إن تطرف المدرسة السلوكية في اتجاهاتها للفصل بين الواقع والقيم العامة للمجتمع، والتي تزامنت في الوقت ذاته مع غياب النظرية السياسية العلمية الشاملة قد أدى إلى ظهور عدد من الأطر المرجعية المتصارعة (13) التي وإن كانت في واقع الأمر محاولات جادة لطرح مفاهيم ومصطلحات تعبر عن حقيقة الظاهرة السياسية من خلال محاولة تجزئة الواقع السياسي بهدف الوصول إلى فهم أوضح لمكوناته، إلا أن هذه المحاولات كانت تعاني من صعوبات منهجية ومضمونية واضحة إضافة إلى هذا النقص الواضح في شموليتها، قد مهد الطريق لظهور المنهج ما بعد السلوكيPost Behavioral Approach الذي كان من أهم أهدافه ربط التحليل العلمي بمجموعة الأهداف الاجتماعية العامة، مع اهتمام واضح بالبعد النظري للظاهرة السياسية برمتها.
وعلى صعيد بناء النظرية اتجهت الجهود إلى محاولة بناء نظرية سياسية شاملة Macro theory تهدف في مجملها إلى الوصول إلى قوانين عامة تلخص الحركة الفعلية للنشاط السياسي وظواهره ككل وهو ما يشكل الأمل الذي يسعى جل الباحثين في علم السياسة للوصول إليه في الوقت الحاضر.

4.1 مدى علمية علم السياسة:
بناء على كل ما سبق يثور تساؤل مهم فحواه، ترى هل علم السياسة علم بالمعنى الأكاديمي المتعارف عليه علمياً؟ ولكي نجيب على هذا التساؤل يجدر بنا أن نحدد أولاً، ما المقصود بالعلم؟.
يعرف العلم بأنه الفهم المنظم للحقائق المادية الثابتة ومعادلاتها وتفاعلاتها ومتغيراتها الناجمة عن مراقبة مظاهرها وبواطنها واستقراء تفاصيلها وجزئياتها وإجراء التجارب عليها واختبارها لاستخراج حقائق جديدة حسب قواعد معينة مختصة. لذا فإن العلوم الطبيعية تتميز بمجموعة صفات أهمها وجود اتفاق عام بين المهتمين بدراستها على طبيعة المشاكل والقضايا التي تشكل أساس هذه العلوم، وكذلك الاتفاق على جملة المفاهيم وطرق البحث لدراسة هذه القضايا والتي تشكل في الوقت ذاته الإطار المعرفي للعلم.
وعليه فإن استخدامنا لمفهوم علم السياسة من خلال المنظور السابق لابد وأن يعني بأن علم السياسة هو ذلك العلم المختص بتفاعلات ومعادلات الحقائق والمواد تفاعلاً إذا تساوت معه كل الأشياء يؤدي إلى نتيجة متوقعة ومعروفة سلفاً أو جديدة. وهو أمر يشكل أكثر من علامة استفهام.
فالنظرية السياسية – على سبيل المثال – لا يمكن لها أن تحوي جميع الأهداف والأسباب سواء في معادلاتها، أو تفاعلاتها. وحتى لو تساوت هذه المعادلات والتفاعلات فإنه لا يمكن الجزم بأن النتيجة أو المحصلة النهائية ستكون معروفة سلفاً أو ممكنة التكرار. ولعل السبب في ذلك يعود إلى كون الظاهرة السياسية دائمة التغير، ولا يمكن لها الثبات لكونها ظاهرة مرتبطة بالوجود الإنساني أصلاً. كما أن التحليل المقارن للظواهر السياسية لا يعدو إلا أن يكون مجموعة من دراسات اجتماعية مقارنة تحاول خلق مفاهيم وتعميمات ممكنة التطبيق على مختلف الظواهر الاجتماعية في العالم، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في إيجاد مجموعة من القواعد التي من الممكن استخدامها لتقييم إمكانية مقارنة هذه الظواهر الملاحظة في نظم اجتماعية مختلفة.
من هنا نستطيع القول بأنه لا يمكن إعطاء إجابة قاطعة بشأن الحديث عن مدى علمية " علم السياسة "، بقدر ما نستطيع الحديث عن مدى اقترابه أو ابتعاده عن مفهوم وخصائص العلم على نحو ما أوضحناه سابقاً.
فالثورة العلمية التي ظهرت في علم السياسة لا يمكن النظر إليها إلا من خلال عجز الإطار المعرفي الحاضر عن حل القضايا المعاصرة، وبالتالي دفع عملية التحول من إطار معرفي لأخر في محاولة لتحريك علم السياسة من الحالة الوصفية المجردة إلى إطار معرفي أكثر قوة وثبات واقتراب من مفهوم العلم.
أن الفرضية المهمة هنا هو أن العلوم الاجتماعية بما في ذلك علم السياسة يجب أن تقود إلى مفاهيم ثابتة وواضحة للظواهر الاجتماعية من خلال محاولة فهم طبيعة السلوك الإنساني سواء أكان فردياً أو جماعياً وذلك من خلال مجموعة من القوانين الناتجة عن الملاحظة. فالسلوك الاجتماعي يتبع عادة لعدد محدود من الطرق المعروفة وأحد هذه الفرضيات على سبيل المثال ما ورد على لسان ماركس – ويبر – سبنسر من أن المجتمعات عادة ما تمر بتركيب متشابه في عملية التنمية.

نخلص من هذا إلى أن الحديث عن مدى علمية علم السياسة هو سؤال لا يمكن تقديم إجابة قطعية بشأنه على الإطلاق بقدر الحديث عن اقتراب أو ابتعاد علم السياسة كمفهوم وممارسة. فعلم السياسة شأنه كشأن الكثير من العلوم الاجتماعية كالاقتصاد وعلم النفس والاجتماع وعلم الأجناس لا يمكن أن يصل في درجة علميته للمواد الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وغيرها.

يوضح الجدول رقم (1) أدناه أنه حتى بين أفرع العلوم الاجتماعية المختلفة هناك اختلافات مهمة بالنسبة الحتمية لمواضيع الدراسة التي تتناولها تلك الأفرع. فعلم الاقتصاد على سبيل المثال يعتبر العلم الاجتماعي الأول من حيث تاريخ الظهور والذي تزامن في ظهوره مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي. لذا فإن مقارنته مع علم السياسة من حيث العلمية تجعله في مستوى أدنى من حيث الاحتمالية العلمية. وفي المقابل فإن علم السياسة يعتبر أشد قوة في عمليته مقارناً بالتاريخ والفلسفة وبقية العلوم التي تندرج تحت مسمى " الإنسانيات " ويبقى السؤال هنا هو عن ماهية المعيار الذي من الممكن استخدامه في معرفة درجة الحتمية العلمية لعلم ما.
الجدول رقم (1)
درجة الاحتمالية العلمية لبعض فروع العلم
درجات احتمالية
الحقل الأكاديمي
تكرار التجربة
تقسيم العمل إلى فئات مترابطة
ملاحظة وقياس المتغيرات
بناء النظرية
تجنب التعارض
فيزياء – كيمياء
قوي جدا
قوي جدا
قوي جدا
قوي جدا
قوي جدا
جيولوجيا – علم أجناس
قوي جدا
قوي
متوسط
قوي
قوي
اقتصاد – علم اجتماع
قوي
قوي
متوسط
متوسط
متوسط
علوم سياسية
متوسط
متوسط
ضعيف
ضعيف
ضعيف
تاريخ – فلسفة
ضعيف
ضعيف
ضعيف جدا
ضعيف
ضعيف جدا
بعض فروع علم السياسة
سلوك التصويت
قوي
قوي
متوسط
قوي
متوسط
الأحزاب وجماعات الضغط
متوسط
متوسط
ضعيف
متوسط
ضعيف
الفلسفة السياسية
ضعيف
ضعيف
ضعيف جدا
ضعيف جدا
ضعيف جدا
وللإجابة على هذا التساؤل نستطيع القول بأن الامتحان الأساسي لمدى علمية فرع ما من فروع العلم إنما يكمن في قدرته على تصنيف المواضيع الأساسية بطريقة مترابطة يمكن النظر إليها كمتغيرات قابلة للقياس الكمي، وبالتالي فبقدر علمية الحقل بقدر إمكانية ملاحظة هذه المتغيرات وسهولة قياسها ومعرفة مقدار التغير فيها.
وعودة أخرى إلى إشكالية مدى علمية علم السياسة، نستطيع القول بأن علم السياسة لم يصل بعد إلى مستوى العلوم الطبيعية بالنسبة لدرجة الاحتمالية العلمية، كما أنه من الصعب جدا التوقع بإمكانية وصوله لتلك الدرجة مستقبلا. على أن ذلك لا يمنع من القول بأن هناك اتجاهاً جاداً من قبل مجموعة الباحثين في هذا الفرع من أفرع العلوم الإنسانية إلى إحلال المعرفة الواقعية والقائمة على عملية التجريب العلمي المجردة بما تشمله من وضع الفروض، وجمع المعلومات، والتحقق من درجة صدقها Validity وثباتها Reliability بغية الوصول إلى تعميمات توضح درجة العلاقات الارتباطية والسببية بين الظواهر السياسية المختلفة بدلا من التصورات الذاتية التي حفل بها مسار علم السياسة لفترة ليست بالقصيرة من الزمن.
لذا فإن هذا الكتاب بما سيحويه من مادة علمية يؤمل لها أن تكون واحدة من محاولات عدة لوضع الأسس العامة التي نستطيع من خلالها أن نأخذ بزمام علم السياسة خطوة متقدمة باتجاه العلمية المنشودة خدمة للهدف الأسمى ألا وهو الوصول إلى نظرية علمية شاملة تفسر الظواهر السياسية بموضوعية وثبات.


هوامش الفصل الأول
(1) انظر على سبيل المثال:
موريس دوفرجيه، مدخل إلى علم السياسة، ترجمة جمال الأتاسي وسامي الدروبي (دمشق، دار دمشق للنشر) ص7.
The New Columbia Encyclopedia, New York, Columbia University Press, 1975, Vol. 1,p. 2180(2ed,) (Ally Bacon Inc., Boston, 1972) p.2.
(2) لمعرفة هذه الاتجاهات انظر:
Philo. C. Wasburn, Political Sociology, Approaches, Concepts, Hypotheses, N.J. Prentice – Hall, Inc., Englewood Cliff., 1982, pp.3-4.
(3) ولعل ذلك قد شكلت الارهاصات الأولى لمولد المذهب السلوكي في علم السياسة.
انظر على سبيل المثال:
Lasswell and A.kaplan , power and Society , New haven , 1950.
(4) محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1988م) ص 344-345.
(5) كمال المنوفي، مقدمة في مناهج وطرق البحث في علم السياسة (الكويت وكالة المطبوعات، 1984م)، ص14.
(6) حسن صعب، علم السياسة (بيروت، دار العلم للملايين 1997م) ص 131-132، حامد ربيع، أبحاث في النظرية السياسية، محاضرات غير منشورة (القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والسياسة، 1970م)، مارسيل بريلو، علم السياسة، ترجمة محمد برجاوي (بيروت، منشورات عويدات 1977م).
(7) لمناقشة مستفيضة لهذا التعريف وأهدافه ومميزاته انظر:
David Easton , A Framework for political Analysis (Englewood Cliffs, N.J. Prentice Hall 1989) p.50.
(8) نظام بركات، عثمان الرواف، ومحمد الحلوة، مبادئ علم السياسة (عمان، دار الكرمل للنشر والتوزيع 1989م) ص16.
(9) كمال المنوفي، " مفهوم تطور علم السياسة "، الفكر العربي العدد 22 (أكتوبر 1981م) و أحمد بدر " الثورة السلوكية في العلوم السياسية " مجلة العلوم الاجتماعية، العدد الثاني، (ديسمبر 1975م).
وكذلك:
Eulau Henin , The Behavioral in Politics (New York: Random House, 1963).
(10) انظر على سبيل المثال:
في حقل النظرية السياسية:
Gabriel A. Almond and Sidney Verba, The Civic Culture, Political Attitudes and Democracy in Five Nations. (1965), Karl. W. Deutsch, The Nerves of Government: Models of Poltitcal Communication and Control (1963), Robert E. Agger, and Daniel Gddrich and Beit E. Swanson, The Rulers and Ruled: Political Power and impotence in American Communities (1964).
وفي مجال الحكومات المقارنة هناك:
Gabriel A. Almond and James S. Cloeman, The Politics of the Developing Areas (1956), Glendon A. Schubert, Quantitive Analysis of Judicial Behavior (1960), Angus Campbell, Philipp E. Converse, Warrant E. Miller and Donald E. Stokes, The American Voter (1960), Thomas Hovert, Jr., Bloc Politics the United nations (1960), Robert A. Dahl, Who Governd? Democracy and Power in an American city (1961), John C. Wahike, Heinz Eulau, William Buchanan, and Leroy C. Ferguson, The legislative System. Explorations in legislative Behavior (1962).
أما في مجال العلاقات الدولية فهناك كتاب كابلن الشهير:
Morton Kaplon , System and Process in International Politics (1957).
(11) لقد برز في بداية ظهور المذهب السلوكي عدد من الأطر التحليلية مثل منهج تحليل النظم والذي يعتبر أقدم هذه الأطر التحليلية ظهوراً، وانتشاراً، فالتحليل البنائي الوظيفي، ثم تحليل الثقافة السياسية، والقرار السياسي، والتحليل الطبقي، والتنمية السياسية.
(12) McClelland, 1966
(13) Daniel Lerner
(14) انظر، د. جلال الصياد، د. مصطفى جلال " مقدمة في طرق المعاينة الإحصائية ". الطبعة الأولى (1410هـ - 1990م)، مكتبة مصباح.




الجمعة، 12 سبتمبر 2008

صنع القرار

  1. صنع القرار
    دراسة في سيسيولوجيا الادارة
    *

    يعتبر موضوع صنع القرار واتخاذه من الموضوعات ذات الأهمية الكبرى التي شغلت بال العلماء الاجتماعيين وبخاصة المضطلعين منهم بعلم الاجتماع أو الادارة أو النفس أو السياسة. وتنطلق الأهمية من أمرين أساسيين: أمر أكاديمي وأمر مجتمعي ويتمثل الأمر (الأكاديمي) في افتقار الدراسات الاجتماعية بصفة عامة الى دراسات معمقة ومفصلة عن مثل هذا الموضوع، كما يتمثل الأمر المجتمعي في أهمية هذا اللون من المجتمعات بالنسبة للقائمين على أمر المجتمعات مخططين أو منفذين مع تسابق المجتمعات خاصة النامية منها في الدخول في مضمار التنمية والتحديث وثمة فرق بين كل من صنع القرار Decision Making واتخاذ القرار Decision Taking.

    والسؤال المطروح هو: ماذا نعني في البداية بكلمة قرار؟!
    تعني كلمة قرار البت النهائي والارادة المحددة لصانع القرار بشأن ما يجب وما لا يجب فعله للوصول لوضع معين والى نتيجة محددة ونهائية. على أن هناك بعداً آخر يمكن أن يضاف الى مفهوم القرار فأفعال كل منا يمكن أن تنقسم قسمين رئيسيين: قسم ينتج من تزاوج التمعن والحساب والتفكير، وقسم آخر لا شعوري تلقائي ايحائي.

    وينتج عن القسم الأول ما يسمى قرارات، أما القسم الثاني فينتهي الى أفعال آنية. وحينما يكون هناك محل لقرار فانة بالتداعي لابد وأن تكون هناك نتيجة ينبغي انجازها ووسائل ومسارات للوصول الى هذه النتيجة.

    ومن ثم يمكن تعريف القرار بأنه (مسار فعل يختاره المقرر باعتباره أنسب وسيلة متاحة أمامه لانجاز الهدف أو الأهداف التي يبتغيها أي لحل المشكلة التي تشغله).

    ويرى البعض أن القرار في أبسط حالاته وسيلة تنشط استجابة سبق تشكيلها وهي في وضع استعداد لدى ظهور موقف يتطلب تلك الاستجابة كذلك فإنه في أقصى حالات التعقيد يصبح القرار وسيلة لتحديد معالم استجابة تلقى قبولاً عاماً حيث لا استجابة قائمة من قبل –ومن وجهة نظر "لاندبرج" يعتبر القرار الاداري العملية المتضمنة التي بها وصل شخص واحد الى ان يقوم بالاختيار الذي يؤثر في سلوك الآخرين بالمنظمة في مساهمتهم لتحقيق أهدافها.

    ومن وجهة نظرنا فان صنع القرار هو (سلسلة الاستجابات الفردية أو الجماعية التي تنتهي باختيار البديل الأنسب في مواجهة موقف معين).

    إن مفهوم صنع القرار لا يعني اتخاذ القرار فحسب وانما هو عملية معقدة للغاية تتداخل فيها عوامل متعددة: نفسية، سياسية، اقتصادية واجتماعية وتتضمن عناصر عديدة.

    ويرى "طومسون" و "تودين" أن (وان كان الاختيار بين البدائل يبدو نهاية المطاف في (صنع القرارات) الا أن مفهوم القرار ليس قاصراً على الاختيار النهائي بل أنه يشير كذلك الى تلك الأنشطة التي تؤدي الى ذلك الاختيار).

    وعلى ذلك يجب التفرقة بين مفهومي صنع القرار واتخاذ القرار فالأخير يمثل مرحلة من الأول بمعنى أن اتخاذ القرار يمثل آخر مرحلة في عملية صنع القرارات.

    ويمكننا تعريف مهمة اتخاذ القرار بأنها عملية أو أسلوب الاختيار الرشيد بين البدائل المتاحة لتحقيق هدف معين. ومن ذلك التعريف يمكن استنتاج النقاط التالية:

    1. أن اتخاذ القرار يتم من خلال اتباع عدة خطوات متتابعة تشكل أسلوباً منطقياً في الوصول الى حل أمثل.
    2. أن لأي موقف أو مشكلة عامة حلولاً بديلة يجب تحديدها و تحليلها و مقارنتها على هدى قواعد أو مقاييس محددة.
    3. أن طريقة اكتشاف البدائل و تحديد قواعد الاختيار و اختيار الحل الأمثل تعتمد كلية على هدف أو مجموعة أهداف يمكن تحقيقها، و المعيار الرئيسي لقياس مدى فعالية القرار.


    و تدور عملية اتخاذ القرار في إطار معين يشمل ستة عناصر هي:
    1. الموقف (أو المشكلة).
    2. متخذ القرار.
    3. الهدف.
    4. البدائل.
    5. قواعد الاختيار.
    6. عملية اختيار الحل الأمثل بين البدائل.
    الهدف

    المشكلة
    الموقف
    قواعد الاختبار
    متخذ القرار
    البدائل
    عملية الاختبار











    عناصر اتخاذ القرار

    مراحل صنع القرار:
    تعددت النماذج التحليلية لعملية صنع القرار، ورغم ما يبدو من اختلاف بين الباحثين في هذا الموضوع الا أن هناك عناصر اتفاق بينهم كذلك فيتفق كل الباحثين في أن صنع القرار يمر بمجموعة مراحل الا أنهم يختلفون في عدد هذه المراحل وترتيبها.

    وعلى أية حال نجد أن هناك نماذج تحليلية لصنع القرار يتراوح ما تحتويه من خطوات ما بين أرتع وتسع خطوات أساسية يجب أن تنم في ترتيب محدد. فمثلاً نجد أن "جريفث" يحدد هذه المراحل في:
    · تحديد وحصر المشكلة.
    · تحليل وتقويم المشكلة.
    · وضع المعايير أو المقاييس التي بها سوف يتم تقويم الحل أو وزنه كحل مقبول وكاف للحاجة.
    · جمع المعلومات.
    · صياعة واختيار الحل (أو الحلول) المفضل واختباره مقدماً.
    · وضع الحل المفضل موضع التنفيذ.

    أما "لتشفيلد" فيضع صورة أخرى على النحو التالي:
    · تعريف القضية.
    · تحليل الموقف القائم.
    · حساب وتحديد البدائل.
    · المداولة.
    · الاختيار.

    و يرى "سيمون" أن صنع القرار يشمل على ثلاث مراحل رئيسية هي:
    · اكتشاف المناسبات لصنع القرار.
    · اكتشاف سبل العمل الممكنة.
    · الاختيار بين سبل العمل.

    وقد تكون عملية اتخاذ القرارات رشيدة منطقية هادفة بصيرة العواقب اذا استخدم فيها التمييز وحسن التقدير. وقد تكون على خلاف ذلك، على أنها تتخذ الشكل التالي في صورتها الأولى (القرارات الرشيدة):
    · تحديد المشكلة أو الموضوع مثار البحث.
    · تحليل الموقف.
    · تحديد البدائل والتدبر فيها.
    · التفكير في النتائج التي ستترتب على الأخذ بكل من هذه البدائل ودراسة هذه النتائج.
    · الاختيار بين هذه البدائل.
    ان هذا التسلسل يفترض توفر عنصري الرشد و حسن التقدير و التمييز كما يفترض الفرصة للتأمل و التفكّر وامكان الاختيار بين البدائل علماً بأن العوامل التي تحد من الرشد في مجال الادارة تشتمل القيم المتعلقة بالعواطف والاحساسات وميزان القوى وديناميكية الجماعة علاوة على عوامل الشخصية.

    بعض العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار
    هناك عدة عوامل تؤثر في اتخاذ القرار نذكر منها ما يلي:
    1. أهداف المنظمة:
    مما لا شك فيه أن أي قرار يتخذ و ينفذ لابد و أن يؤدي في النهاية الى تحقيق أهداف المنظمة أو الهيئة أو المجتمع المتخذ فيه القرار، فأهداف المنظمة أو الهيئة مثلاً هو محور التوجيه الأساسي لكل العمليات بها، لذلك فان بؤرة الاهتمام في اتخاذ القرار هي اختيار أنسب الوسائل التي يبدو أنها سوف تحقق أهداف المنظمة التكتيكية أو الاستراتيجية.
    2. الثقافة السائدة في المجتمع:
    تعتبر ثقافة المجتمع و على الأخص نسق القيم من الأمور الهامة التي تتصل بعملية اتخاذ القرار، فالمنظمة لا تقوم في فراغ وانما تباشر نشاطها في المجتمع وللمجتمع. ومن ثم فلا بد من مراعاة الأطر الاجتماعية والثقافية للمجتمع عند اتخاذ القرار.
    3. الواقع ومكنوناته من الحقائق والمعلومات المتاحة:
    لا يكفي المحتوى القيمي أو المحتوى الأخلاقي كما يسميه البعض بل يجب أن يؤخذ في الاعتبار الحقيقة والواقع وما ترجحه من وسيلة أو بديل على بديل.
    وفي رأي "سيمون" أن القرارات هي شيء أكبر من مجرد افتراضات تصف الواقع لأنها بكل تأكيد تصف حالة مستقبله هناك تفضيل لها على حالة أخرى وتوجه السلوك نحو البديل المختار، ومعنى هذا باختصار أن لها محتوى أخلاقي بالاضافة الى محتواها الواقعي.
    4. العوامل السلوكية:
    يمكن تحديد الاطار السلوكي لمتخذ القرار في ثلاثة جوانب هي:
    الجانب الأول: ويتعلق بالبواعث النفسية لدى الفرد ومدى معقوليتها والتي يمكن من خلالها تفسير السلوك النفسي للفرد في اتخاذ قراره.
    الجانب الثاني: ويتصل بالبيئة النفسية للفرد حيث تعتبر المصدر الأساسي الذي يوجه الشخص الى اختيار القرار من بين البدائل التي أمامه، ومن ثم كان اتخاذه له.
    الجانب الثالث: دور التنظيم ذانه في خلق البيئة التفسية للفرد من خلال:
    · تحديد الأهداف له.
    · اتاحة الفرص للممارسة الادارية واكتساب الخبرة داخل التنظيم.
    · مده بالمعلومات والبيانات والتدائل.
    · اسناد المسؤوليات له مع منحه القدر اللازم من السلطة.

    المشاركة في صنع القرار وأهميتها
    وجدت الادارة في المنظمات الحديثة أن هناك ضرورة الى الأخذ بمبدأ المشاركة في صنع القرار مع توسيع دائرة المشاركين كلما أمكن وعدم تركيز القرار في يد فرد واحد. وقد ظهر هذا الاتجاه وتأكدت نتيجة لعوامل من أهمها:
    · نمو المنظمات و تضخم حجمها.
    · الحقيقة المنطقية التي تؤكد بأن الفرد مهما توافرت له من قدرات ذاتية فإنه يعجز عن الإحاطة بكل الظروف في كل الأوقات.
    · ما لمسه الخبراء ووضح من أهمية الشورى (الأسلوب الديمقراطي) في القيادة الادارية الذي يتجسّد أساساً في توسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار خاصة فيما يتعلق بتلك القرارات التي تؤثر في المشاركين أو في أعمالهم وما يحققه ذلك من مزايا عديدة مثل ضمان تعاونهم والتزامهم.
    · ان توسيع نطاق المشاركة قد يؤدي الى إثراء القرارات لأنها تصبح متأثرة بمعلومات وخبرات متنوعة، كما أن الاجراءات المتخذة تكون أكثر ملاءمة لمتطلبات الموقف الذي يتفاعل معه المشاركون فضلا عن أ، كل مشارك يصبح أكثر اهتماماً بالموقف طالما أن القرارات والاجراءات المتخذة تتأثر به وهذا يكسبه خبرات أكثر تزيد من كفاءته ونضجه.
    هذا و قد يكون اشتراك المرؤوسين على عدة درجات تبدأ من السماح بتقديم اقتراحات في امور بسيطة الى الاشتراك التام في القرارات الكبيرة و ذلك حسب المتدرج التالي:
    صفر - عدم اشتراك المرؤوسين اطلاقاً.
    - السماح بقبول اقتراحات صغيرة في أمور بسيطة.
    - استشارة المرؤوسين أحيانا في موضوعات مهمة نسبياً.
    - استشارة المرؤوسين في قرارات هامة.
    100% - اشتراك المرؤوسين اشتراكاً تاماً في عملية اتخاذ القرار.

    ويقول "لاندبرج" بينما يمكن أن يشار الى شخص واحد بصانع القرار نيابة عن المنظمة الا أنه يمكن بسهولة ادراك أن آخرين قد ساهموا في تمييز المشكلات وفي تحديد وتقويم البدائل، وبالتوصل للخيار النهائي حيث يمكن ارجاع (عناصر القرار) بواسطة قنوات الاتصال الرسمية وغير الرسمية الى أشخاص عديدين، وعلى ذلك يجب التظر الى أن عملية صنع القرارات (في المنظمات) تعني في ذاتها جهداً مشتركاً لأكثر من فرد وليست بأية صورة جهداً فردياً لشخص معين مهما كان موقعه في الهيكل الاداري للتنظيم حتى ولو كان القرار في صورته النهائية قد صدر من قبل هذا الفرد.

    ولكي تؤتي المشاركة في اتخاذ القرارات ثمارها المرجوة فانه ينبغي على الادارة مراعاة عدة اعتبارات منها:

    الوقت المتاح:
    قد يكون الوقت المتاح للمديرين والرؤساء لاتخاذ قرارات معينة قصيراً أو محدوداً كما في حالة القرارات ذات الصفة العاجلة الملحة في هذه الحالات فإن الفوائد التي تترتب على المشاركة قد تؤدي في نفس الوقت الى تعطيل بعض الأهداف الاخرى التي قد تكون أكثر أهمية. وعلى المديرين والرؤساء أن يوازنوا بين هذا وذاك على وجه السرعة.

    العامل الاقتصادي:
    المشاركة في اتخاذ القرارات داخل المنظمات عملية مكلفة اقتصادياً من حيث الوقت والجهد والاعداد اللازم لها، وعلى المديرين والرؤساء أن يراعوا ألا تكون التكلفة عالية حتى لا تغطي على قيمة المزايا التي تترتب على المشاركة في اتخاذ القرارات.

    المسافة بين الرؤساء والمرؤوسين:
    ينبغي ألا يكون اعطاء الفرصة للمرؤوسين للمشاركة في عملية اتخاذ القرارات مع الرؤساء مصيدة لايقاع المرؤوسين في أخطاء تؤثر عليهم أو على مستقبلهم الوظيفي بالمنظمة، ومن ناحية أخرى ينبغي ألا تكون تلك المشاركة على حساب سلطة الرؤساء ومكانتهم داخل المنظمة.




    سريّة القرارات:
    كثيراً ما يتطلب العمل في بعض المنظمات عدم تسرب المعلومات منها الى الخارج وفي مثل هذه الحالات ينبغي ألا يؤدي اعطاء فرصة المشاركة في صنع واتخاذ القرارات الى تسرب المعلومات عن طريق المرؤوسين الذي ساهموا في صنع القرارات.

    انواع القرارات
    هناك تصنيفات للقرارات وانواعها و فيما يلي عرض لأهم هذه التصنيفات:
    1. تقسيم بحسب درجة أهميتها وعموم شمولها:
    فعلى طرف هذا التقسيم توجد القرارات الاستراتيجية التي تمس مبرر وجودها وكيانها وأهدافها السيايسة وسيايتها الرئيسية وعلى الطرف الآخر توجد القرارات الادارية محددة الأجل والتي تتعلق بالاجراءات وغيرها من المسائل التكتيكية.
    2. تقسيم وفق معيار طبيعتها:
    فهناك قرارات نظامية وقرارات شخصية فعندما يتصرف المدير في اطار دوره كمسؤول رسمي فانه يتصرف في اطار قواعد النظام الرسمي المعلن والمعروف للمجتمع. وهذا النوع من القرارات يمكن التفويض فيه للمستويات الادارية التالية والتي تأخذ قراراتها في حدود أحكام النظام المقرر. أما القرارات الشخصية فانها القرارات التي يتخذها المدير في اطار تقديره كفرد ومن ثم فهي لصيقة بشخصه وتقديره وقيمه الذاتية. وهذا النوع من القرارات عادة لا يفوض فيه.

    3. تقسيم بحسب درجة امكان جدولتها:
    هناك قرارات روتينية متكررة ومن ثم فانها ليست حالات معينة أو مميزة أو فريدة في نوعها. وهناك القرارات التي لا يمكن جدولتها وفقاً لروتين معين لكونها تتميز بأن موضوعاتها ليست متشابهة أو متماسكة، وتلك تستلزم النظر في كل حالة على حدة وفق ظروفها وموضوعها. وتتطلب عملية صنع جديدة يتم بعدها اتخاذ القرار وفق الموقف المعين.

    4. تقسيم بحسب محتواها من درجات التأكد:
    فبالنسبة لبعض القرارات تكون البيانات المؤسسة عليها متاحة ودقيقة وكاملة، والنتائج المتوقعة منها مضمونة ومؤكدة، وبعض القرارات الأخرى يتوافر عنها بيانات اجتماعية ومن ثم فان نتائجها ليست مؤكدة، وتؤخذ قراراتها في اطار من المخاطرة بإمكان الحصول على النتائج المرجوة او عدم الحصول عليها.
    على ان مثل هذه القرارات يمكن جدولتها في اطار أنسب من الاحتمالات أن هذا التقسيم في الحقيقة يقسم بمدلول نوعية البيانات المتاحة عن الموقف موضوع القرار والذي أصبح يدرس الآن تحت ما يعرف ب "نظرية القرار" والتي تدور أساسا حول المنطق الرياضي للاختيار تحت ظروف عدم التأكد.

    5. تقسيم بحسب الموضوع محل القرار:
    فهي قد تكون قرارات أجندة أي القرارات التي تحدد المشاكل ووضع أولويات لبحثها. وقد تكون قرارات تفضي للاجراءات والأساليب المناسبة للوصول الى حلول المشاكل مقررة، وقد تكون قرارات تخصيصية كما قد تكون تنفيذية متعلقة بتحديد من يقوم بماذا ومتى وأين وكيف. وقد تكون قرارات تقويمية متعلقة بقياس الانجازات المحققة ومقارنتها بالاستهدافات المتوقعة.

    6. تقسيم بحسب درجة التغيير المطلوبة:
    و تفهمنا لطبيعة الموقف محل القرار و الآثار المترتبة عليه. و يمكن تفهم هذا النوع من التقسيم في اطار امتداد لتعدين متقاطعين هما:
    البعد الأفقي: ويبين درجة التأثير التي يحدثها القرار ومن ثم فانه يقع على امتداده قرارات يتدانى ماتحدثه من تغيير الى درجة جدية.
    البعد الرأسي: ويبين درجة تفهم طبيعة الموقف موضوع القرار والنتائج المترتبة على اتخاذه، ومن ثم فانه يقع على امتداده قرارات يتعاظم فهمنا لمتابعتها.









    * إدارة المؤسسات الاجتماعية، مدخل سوسيولوجي, د. عبد الهادي الجوهري، د. ابراهيم أبو الغار، دار المعرفة الجامعية، 1998.

الخميس، 11 سبتمبر 2008

الادارة العامة في الاسلام


الإدارة العامة في الإسلام :
إبراهيم مبارك الأعظمي
بكالوريوس في الإدارة العامة
جامعة بغداد
المدخل:
قبل البدء في الدخول في صلب الموضوع أودّ أن أُبيِّن شيئا مبسطّاً عن الأوضاع الإدارية السائدة وحالة المسلمين بالنسبة إلى الإسلام العظيم الصحيح الكامل أولاًّ و الإدارة العامة ثانيا .
فممّا لاشك فيه أنّ المسلمين اليوم وفي جميع أقطار العالم بصورة عامة قد جهلوا الإسلام العظيم, وانحرفوا عن طريقه الواضح الجلي؛ طريق الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ وسبب ذلك الحرب العدوانية التقليدية النشيطة على الإسلام الحق وأهله من قبل الأعداء بمختلف منظماتهم العلنية و السرية الفردية والجماعية مع جميع مغرياتهم ومكانتهم التعبوية المتنوعة التخطيط[1] التي تكيد للإسلام والمسلمين بعد أن غفل أهله عنه, ومالوا إلى غيره من المبادىء والنظم, مما سبب إلى ضعفهم وتأخرهم واستهانة عدوهم بهم .
وقد أعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها",فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟"قال: "بل أنتم يومئذ كثير, ولكنّكم غثاء كغثاء السيل, ولينزعنّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم, وليقذفنّ في قلوبكم الوهن",قال قائل: "يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"[2].
ومما يتصل بهذا أيضا قول الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} التوبة: 8-10, فصفة الاعتداء أصيلة قديمة فيهم قدم التاريخ البشرى, تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه, وتنتهي بالوقوف في وجهه, وتربصهم بالمؤمنين, وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة, إذا هم ظهروا عليهم, وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم ولا متحرجين, ولا متذممين من منكر يأتونه معهم ..وهم آمنون .. إنّ المسلمين يواجهون أعداء متربصين بهم, ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك .. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل .. [3]
وحقيقة المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين المسلمين و أهل الكتاب من اليهود و النصارى, وما الحروب الصليبية سابقا والحروب في فلسطين حاليا ببعيدة عنا. وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج و أوضاع من صنع العبيد, لا يأمن فيها من خالفها من البشر على نفسه, ولا على ماله, ولا على عرضه, ولا على حرمة واحد من حرمات الإنسان, ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتعون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان, وفي كل زمان وعلى رأس كل وضع من هذه الأوضاع تقوم الأجهزة الإدارية لتؤدي دورها وفعلها المهم بكل نشاط, لذلك فإن وضع المسلمين اليوم وحالتهم مما هم عليه من التخلف والتأخر ونزع المهابة من صدور الأعداء وغير ذلك من وسائل الضعف بالرغم من وجود الثروات الطبيعية والخيرات النافعة النامية في بلادهم كل ذلك سببه يعود إلى فساد الأنظمة التي بدلوها بالإسلام العظيم الصالح وقيمه, إذ هي التي خسرتهم, وحالت دون تقدمهم وازدهارهم, بل وإن شئت فقل إن هذه الأنظمة المستوردة الفاسدة هي التي وقفت بهم هذه الوقفة الجامدة المتحجرة, وقيدتهم بقيود استمداد الإيحاءات ممن اشتروها, وهم بطبيعة الحال أعداء, والعدو لا يرحم عدوه, بالإضافة إلى نقص في العقلية والتفكير؛ لأنهم بشر وهيهات وهيهات أن يرو التقدم والازدهار مالم يأخذوا بنظام الإسلام الأوحد. وهذه المشاكل العالمية الكبرى لأكبر دليل شاهد على ما نقول بالنسبة للعالم بصورة عامة, والبلاد الإسلامية خاصة, إذ ليس الإسلام العظيم أراد بهم هذا, بل إن المسلمين أنفسهم ضعفوا وتخلفوا وتقلصوا عندما تركوا مصدر عزهم ونصرهم الأساسي المتين الجبار وهو الإسلام العظيم قال تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 7)[4].
تنبيـه:
وتأييدا لما ذكرنا فقد صرح أحد تلاميذ المستشرقين وممن يدعى كذبا من أبناء الإسلام قال: "إنّ جميع الذين درسوا الإسلام عن طريق البحث العلمي الغربي هم بلا استثناء تلاميذ المستشرقين وخدمهم, فعليهم أن يجددوا فهم الإسلام كما تعلّموه من الغرب, لا كما جاء من الله والرسول".
وقد ذكر اللورد كرومر قائلا: "إنّ بريطانيا عزمت أن لا تمنح استقلالا, ولا تعطي الحرية لأي مستعمرة من مستعمراتها مالم تُربِّي جيلاً من أبناء تلك المستعمرة ليقوموا بخدمتها"[5].
ولقد كانت هذه الكلمة حقيقة واقعة مشاهدة إلى الآن, هذه التي ذكرها كورمر إذ أنجبت بالفعل جيلا وفيّاً لخدمة بريطانيا, ومنهم نماذج كثيرة, وللقراء الكرام نموذجا على ذلك وهو الشيخ.. صاحب كتاب: (الإسلام وأصول الحكم), وقد جاء فيه ما يلي: "إنه من الملاحظ البيِّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أنّ حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظا, وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجودا, فلسنا نعرف لهم مؤلفا في السياسة, ولا مترجما, ولا نعرف لهم بحثا في أنظمة الحكم, ولا أصول السياسة, اللهم إلاّ قليلا لا يقام له وزناً إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون", ثم يضيف إلى ذلك قوله: "فما لهم قد وقفوا حيارى أمام ذلك العلم, وارتدوا دون مباحثه خاسرين؟ مالهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون, وكتاب السياسة لأرسطو, وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقّبوه بالمعلم الأول؟ مالهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة, وأنواع الحكومات عند اليونان, وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو, وأن يروِّضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة و دمنة, بل رضوا أن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر, و إيمان وكفر؟"[6].
عظمة الإسلام:
والعجب العجاب والعظمة البالغة من الإكبار والاحترام لقوة الإسلام العظيم الرهيبة, والمؤيد بالقوة العلمية الخارقة؛ إذ أنّ الله تعالى - وهو أحكم الحاكمين حقا - يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"[7].
فقد برهنت الوقائع المتناهية والأدلة الثابتة بصدق ما ذكرنا آنفا, إذ وقف بوجه هذا الشيخ.. ومن دار بفلكه رجل نصراني من أتباع الصليب يرده بعنف, ويفنّد مزاعمه وأباطيله ويجهله بنفس المؤلف هو الأستاذ بطرس بطرس غالي, وهذا ما يكفيه خزيا, وردّه هذا يقع في عشرين صفحة من 171-191, وفي فصل كامل ونحن لا نستطيع أن نسطِّر هذا التفنيد كله لافتراءات الشيخ.. على الإسلام وجهله به إلا أننا نقتبس منه بعض الشيء ليستنير القارئ المسلم الكري,م والباحث المنصف بعظمة الإسلام وقوته الحركية المولدة الدافعة نحو التقدم والازدهار, وهذه حقيقة عظمة الإسلام في كل زمان ومكان, (والفضل ما شهدت له الأعداء), قال الدكتور بطرس بطرس غالي: "وآراء الأستاذ .. في رأينا تنطوي على كثير من المبالغة؛ فقد أثبتت الدراسات التي قام بها العلماء أخيراً, أنّ هناك مفكّرين سياسيين في الإسلام لا يقلون شأنا عن المفكرين السياسيين في الأمم الأخرى فهناك عشرات [8] من العلماء ألّفوا في علم السياسة ممن سنعرض لبعضهم بالإيجاز ولبعضهم بشيء من التفصيل:
4-بعض رجال الفكر السياسي الإسلامي :
1- ومن هؤلاء المؤلفين (أبو بكر الطرطوشي) من رجال القرن الثاني عشر وكان تلميذ لابن حزم, من أكبر علماء الأندلس في إشبيلية, ثم رحل إلى المشرق, ودرس في بغداد, وله كتاب في علم السياسة اسمه (سراج الملوك) قدمه للوزير المأمون بفسطاط .. وهو يتناول فيه نصائح للملوك ويحلّل صفات الولاة, والقضاة, والعلاقة بين الحاكم الأعلى ورعيته ونظام الدولة, وصفات الوزراء, والجلساء, والشروط الواجب توافرها في حاشية السلطان, وعلاقة السلطان ببيت المال وموظفيه, وكيف يعامل أهل الذمة ونحو ذلك. وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته وأثنى عليه .
2- ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله كان معاصرا للسلطان صلاح الدين الأيوبي, وألف له كتابا أسماه (المنهج المسلوك في سياسة الملوك).
3- ومنهم ابن حماتي المصري كان قبطيا ثم أسلم, وله كتاب (قوانين الدواوين) وثانيهم كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) عرف باسم قراقوش وهو وزير صلاح الدين الأيوبي.
4- ومنهم عثمان بن إبراهيم النابلسي الذي كان يشرف على الدواوين المصرية في القرن الثالث عشر, وألّف كتابا اسمه (لمع القوانين المضيئة).
هؤلاء وكثير غيرهم من المذكورين في مؤلف الدكتور بطرس وغيرهم من الذين نعرفهم نحن من أعلام الإسلام القدامى والمعاصرين لفيه الكفاية على افتراءات وجهل الشيخ مما دعا الدكتور يقول أيضا : "هذه مما تبيح لنا أن نعدهم من قادت الفكر السياسي, إلا أن كتبهم تدل على أنّ الأستاذ[9] قد بالغ في قوله: إن الحركة العلمية عند المسلمين لم يكن للعلوم السياسية حظ فيها". ثم يستطرد الدكتور بطرس في ردّه على أكاذيب وجهل الشيخ.. "وهناك مؤلفون آخرون لا نتجاوز الحق إذا عددناهم من قادة الفكر السياسي في العالم, وسنعرض لبعضهم بشيء من التفصيل" نذكر هنا الأسماء فقط :
أولا : أبوا النصر الفارابي (870-950م).
ثانيا : ابن أبي الربيع (القرن التاسع الميلادي).
ثالثا : أبو حامد الغزالي (1058 – 1902 م).
رابعا : ابن خلدون (1332 – 1406 م).
خامسا : عبد الرحمن الكواكبي (1848 –1902 م).[10]
وناهيك عن ذكر العلم الفذ الذكي البارع المجاهد العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية (661- 278هـ , 1262- 1328م), وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية, ثم الشيخ الورع العالم المجاهد وقائد النهضة الإسلامية ومحارب البدع والضلال الشيخ محمد بن عبد الوهاب السعودي, ولد في (1115- 1206 م),وله من العمر 92عاماً. ومؤلفاتهم في السياسة والإدارة وفي جميع المجالات ومقاومتهم ووقوفهم بصلابة في وجه الأعداء .
5- قـاعدة:
عندما ينحرف أو يتخلى عن الإسلام أهله فإنّ الله تعالى يُهيِّءُ من أعدائه أناسا ليدافعوا عنه سواء شعروا أم لم يشعروا, وهذا سر من أسرار بقائه وديمومته, كما هيأ الدكتور بطرس للرد على افتراء و جهل الشيخ .. والأدلة على هذا كثيرة قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام 129. وقال في تأييده للرسول صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} التوبة:40
6-الإدارة العامة والسياسة :
وبما أنّ الإدارة العامة تعد تارة فرعا مهما من فروع العلوم السياسية[11], وتارة تعد السياسة فرعا منها, وتارة تعتبر الإدارة العامة علما وفنا مستقلا قائما بذاته[12], وإن كان هذا العلم لشديد الصلة مع غيره من العلوم, وهذا هو ما سنقوم بتبيانه وشرحه وتوضيحه لمن يجهل بالإسلام العظيم من تلاميذ المستشرقين الحاقدين, وغيرهم ممن يخبط فيه خبط عشواء لم تصب. والمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة حقائق الإسلام العظيم في جميع المجالات, وبالأخص في هذا الزمان بالذات الذي تكالب الأعداء عليهم من جميع الجهات وتزيّن لهم الأنظمة البشرية الفاسدة بدعايتها المسمومة, وليعلموا أن لا ملجأ لهم ولا عاصم من غارات الأعداء الهمجية الوحشية إلا الإسلام العظيم, و أنه لا يحقق لهم العدالة و الحرية والمساواة في بلادهم إلا الإسلام بكليته وتمامه, لذا فمن أوجب الواجبات عليّ أن أبيّن ما خفي على المسلمين من التعريف بالإسلام العظيم عامة, والإدارة العامة فيه خاصة, وكيف تناولها بأسلوبه السلس الرصين, وتشكيلاته وتنظيماته السليمة الرشيدة, لا كما عرفته البيروقراطية[13] الضالة العاجزة التي تعج وتعصف بمشكلاتها المستعصية دون حل إلا اللهم الظلم والاستبداد, والرجوع بالإنسان إلى الوحشية وسيادة الغاب في التعامل الوظيفي, وهذا هو الفساد والدمار.
7- الإدارة العامة :
فالإدارة العامة الناجحة لأكبر دليل عل تقدم البلاد وازدهارها, والرديئة لأكبر دليل عل تأخر البلاد وتخلّفها, وهي المحرّر الوحيد الذي يعرف بها مقياس درجة الارتفاع والانخفاض بالنسبة للتقدم والتخلف؛ ولأنها تهتم بالتنظيم والتخطيط والتنسيق والقيادة والعلاقات الإنسانية مع مراعاة التوازن بين المادة والقيم, لذلك كان إعادة النظر دائما في الإصلاح الإداري بالنسبة للأمم المتمدنة والشعوب الراقية أمر لابد منه بين فترة وفترة أخرى معينة ومحدودة ومستمرة وفق قواعد مرسومة ثابتة .
8- الشذرة:
وشذرة كل ما تقدم أن الإسلام العظيم نظام كامل شامل للحية الطيبة السعيدة, له أعداء كثر قديما وحديثا, لذا فمن المفروض عليّ أن أبيِّن حقائق الإسلام في علم وفن (الإدارة العامة), وإني لأرجو أن قد وفقت لما قلت, وما سأقوله عن الإدارة العامة سابقا ولاحقا, والله تعالى أسأل أن يجمع كلمتنا على الإسلام وحده فقط .
- انتهى المدخل -
للبحث صلة
[1] إذا المسلم الغيور يرغب بالمزيد للتوسع عليه أن يدرس كتاب (أسرار الماسونية) للجنرال المسلم التركي جواد رفعت آتلخان ترجمة الأستاذ نور الدين الواعظ. وكتابا (هل نحن مسلمون) صفحة 132وما بعدها, ومقدمة (شبهات حول الإسلام) تأليف الأستاذ محمد قطب.
[2] رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة, خرّج هذا الحديث من كتاب (مشكاة المصابيح) بهذا اللفظ الجزء الثاني تحقيق الالباني, وقال عنه: حديث صحيح.
[3] مقتطفات من كتاب ظلال القرآن لسيد قطب (المجلد الرابع) تفسير سورة التوبة .
[4] عن مقال باللغة الإنجلزية للسيدة (مريم جميلة) من مجلة المسلم الصادرة من قبل الطلبة المسلمين في لندن.
[5] –من كتاب (المؤامرة الصهيونية والعالم الإسلامي) باللغة الإنجليزية للفاروقي .

[6] المدخل في علم السياسة ص 171 في 28/10/1967 حررنا مقالا بعنوان (الإسلام علاجنا) نشر في جريدة (الرافدان) البغدادية لو رجع الشيخ.. إليه بالتأكيد فسينبذ كل ما يستوحيه من أسياده.
[7] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية للشيخ تقي الدين ابن تيمية ص14.
[8] يذكر الدكتور بطرس بأنه هناك العشرات من العلماء ألّفوا في علم السياسة, وهذا طبعا لاطلاعه المحدود, ولكن علماء المسلمين الذين ألّفوا في علم السياسة هم مئات بل الألوف, ونحن على استعداد بأن نقدم الإحصائية إن أراد الدكتور؛ لأن الحكم جزء مهم من الإسلام والحرية فريضة من فرائضه .
[9] إنيّ لم أذكر اسم الشيخ لأعرفه للقراء, ولكن من يريد اسمه يرجع إلى الكتاب الذي ذكرناه سلفا .
[10] المدخل إلى علم السياسة للدكتور بطرس مع الاشتراك تشاهد التفصيل من صفحة 171إلى 191 في المبحث الرابع.
[11] العلوم السياسية ترجمة مهيبة مالكي الدسوقي 192.
[12] دراسة في الإدارة العامة دوايت والدو صفحة 22 وما بعدها .
[13] تعني البيروقراطية: التبذير والفساد وعدم التقيد, ولكن المفهوم الفني لهذا اللفظ هو (حكومة المكتب) أو (الإدارة عن طريق المكاتب) راجع كتاب (البيروقراطية والمجتمع في مصر) صفحة 1 تأليف مورو بيرجر ترجمة وتقديم الدكتور محمد توفيق رمزي .

السياسات العامة والتنمية الادارية

< ع ;">السياسات العامة للتنمية الإدارية - ;">المؤتمر الوطني الأول للسياسات العامة في ليبيا

جامعة قاريونس ـ بنغازي
(11-13 يونيو 2007)
السياسات العامة للتنمية الإدارية
منظور كلي
د. أبو بكر مصطفى بعيرة
أستاذ التنظيم والإدارة
الجامعة الأميركية- American University
تقديم عام :
يعتبر مجال السياسات العامة مجالاً مرتبطاً ارتباطا ً وثيقا ً بالمشكلات العامة والمثيرة للجدل والتي تبرز في الحياة العامة اليومية ، كما يعد هذا الحقل قديماً في الممارسة لارتباطه بتلك المشكلات ، ومستحدثاً على صعيد الدراسة المنهجية العلمية المنتظمة منذ صدور كتاب علوم السياسات الذي نشره كل من ( لاسويل وليرنر ) وحمل عنوان : علوم السياسات العامة .
وفي هذا الصدد تعتبر السياسات العامة في مختلف أوجه نشاط الدولة أساساً لتحقيق أهداف المجتمع ، باعتبار أن أحد أكثر تعريفاتها المتداولة (لكارل فردريك) يميل إلى اعتبارها برنامج الدولة للوصول إلى أهداف وأغراض محددة ، منطلقاً في تعريفه من فكرة أن السياسة العامة تمثل مصلحة المجتمع ، وأن دراستها يجب أن تكون لصيقة بمشاكله العامة وتعبر عن السير باتجاه تحقيق أهدافه العامـــة .
ونظراً لكون السياسة العامة تعني بحل المشكلات العامة ؛ فقد نٌظر إليها على أنها تمثل " برنامج العمل الهادف الذي يتبعه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو مواجهة قضية أو موضوع ما" ، بغية أهداف المجتمع العامة وذلك في شكل تنميةٍ شاملةٍ تغطي مختلف مناحي الحياة فيـــه والتي تشير إلى قيام مجموعة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والبيئية التي تحدث نوعاً من التطوير والتحديث للارتقاء بمستوى معيشة السكان الوطنيين. وبقدر جودة تلك السياسات ووضوحها يكون مقدار تقدم ذلك المجتمع وبلوغه لأهدافه العامـــــة .
المحور الأول: سياسات التنمية الإدارية : نظرة عامة
أولاً- مفهوم سياسات التنمية الإدارية :
لقد سادت خلال الفترة الماضية ، وخاصة فترة ما بعد الحربين العالميتين الأولــى و الثانية ، الاهتمامات المتنامية بقضايا التنمية الاقتصادية ؛ حيث أنها كانت المفهوم الأكثر وضوحاً خلا ل تلك الفترة ، ولم يكن للتنمية الإدارية وقضاياها أي نصيب في كتابا ت رواد تلك الحقبة من أمثال جون ماينارد كينز 1946-1883)) وج. شومبيتر (1950-1883) وغيرهم ، الذين كان اهتمامهم منصباً بشكل أساسي على قضايا التنمية من منظور اقتصادي بحت .
وحتى عندما تحدث شومبيتر عما يعتبر الآن ركنا أساسياً من أركان التنمية الإدارية وهو ما يعرف الآن بال (Entrepreneur) ، فقد تحدث عنه على أنه يمثل أحد عناصر العملية الاقتصاديـــة ؛ حيث أطلق عليه اسم ( المنظم ( Organizer الذي يجمع مدخلات العملية الإنتاجية مع بعضها البعض ، من مواد خام ورأسمال وآلات وقوى عاملة .
إلا أن الفترة الأخيرة قد حملت تزايداً في الاهتمام بمحورين أساسيين في قضية تحقيق التنمية الاقتصادية والنهوض بمستوى معيشة الناس ، ألا وهما محـــورا الإدارة ومحور السياسات العامة التي تنشد تحقيق التنمية عن طريق ماعرف بالإدارة الرشيدة ، وهو ما عزز يقين الكثير من الباحثين بأن هناك حلقة مفقودة في قضايا ا لتنمية تؤدي إلى عرقلة جهود التقدم دون أن يتم التطرق إليها بشكلٍ مباشر .
فقد لوحظ بشكل واضح بأن هناك الكثير من المجتمعات التي تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية ، ولكنها تعاني من تأخر اقتصادي وتخلف واضح في جهود التنمية ؛ في حين أن هناك مجتمعات أخرى تمتلك موارد طبيعية أ قل ، ولكنها تتمتع بمستويات معيشةٍ أعلى بسبب حسن إدارتها لتلك الموارد .
وفي هذا الصدد فقد مهدت كتابات بعض رواد الفكر الإداري من أمثال الأمريكي فريدريك تيلور، والفرنسي هنري فايول إلى بروز الحديث عن الإدارة كموضوعٍ مستقل يمكن أ ن يتم تطوير نظرية خاصة بــــــه .
وبدأت الأصوات المنادية بضرورة دراسة الدور الأساسي الذي تلعبه الإدارة في تحقيق أهداف السياسات العامة وصولاً إلى التنمية الشاملة في داخل المجتمع .
ومن هنا ظهر البعد الجد يد للنظر إلى عملية التنمية الشاملة من منطلق إداري ، وبرز كتّاب معاصرون اهتموا بهذا البعد الإداري ، وخاصة الجانب المقارن منه ؛ من أمثال هارولد كونتز ، وتشستر بارنارد ، وهربرت سايمون ، وباري ريتشمان ، وكريس آرجيريس ، ورنسس ليكرت وغيرهم من كتّاب الثورة الإدارية المعاصرة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ حيث يصعب على المرء تتبّع ما ينشر حول الإدارة من كتب ومقالاتٍ وبحوثٍ وندوات وغيرها ، وذلك لكثرة عددها .
وقد شملت هذه النظرة الجديدة التطرق إلى دور التنمية الإدارية من خلال تعريف عملية الإدارة نفسها ، لتعكس هذا الفهم الجديد الكلي ، فلم يعد ينظر إلى الإدارة فقط على أنها " ... عملية إنجاز الأعمال عن طريق الآخرين " ، وإنما أعيدت صياغة تعريفها ليشير إلى أن الإدارة في المستوى الكلي " ... هي عبارة عن عملية التحكم في الموارد المتاحة في مجتمع ما ، وذلك قصد تقديم مستوي معيشي معين" " "
وتأسيساً على الدور المحوري الذي تلعبه الإدارة في علمية تنفيذ أهداف السياسات العامة؛ فقد انضم الباحثون المتخصصون في مجال السياسات العامة إلى باحثي علم الإدارة في تركيزهم على الأهمية المحورية للإدارة في تحقيق الأهداف من خلال مؤشراتها الأساسية المتصلة بمجموعة الجوانب والمبادئ التنظيمية والإدارية المتعلقة بنظام السياسة العامة والبرامج الحكومية ، كالاستقرار الإداري والكفاءة الإدارية والشفافية والجودة ...الخ .
فبرز نتيجة لذلك التوافق بين الباحثين ، مفهوم سياسات التنمية الإدارية ؛ فإذا ماكان مفهوم التنمية الإدارية يشير في معناه العام إلى قيام مجموعة الأنشطة الإدارية التي تحدث نوعاً من التطوير والتحديث للارتقاء بمستوى معيشة السكان الوطنيين ؛ فإن سياسات التنمية الإدارية وفقاً لذلك تعني مجموعة البرامج والأهداف العامة الأساسية التي تصاحبها القرارات الأفعال التنفيذية والتي تهدف إلى الارتقاء بمستوى معيشة السكان وإحداث التطوير والارتقاء في داخل المجتمع .
ثانيا ً - مراحل التنمية الإدارية والسياسات العامة :
يمكن بشكل عام التمييز بين مراحل مختلفة يمكن تصنيف أي مجتمع من المجتمعات من خلالها علي أساس مدي اهتمامه بقضايا التنمية الإدارية ، ويمكن إجمالا اختصار هذه المراحل في الآتــــي : -
أ- مرحلة الوعي أو الإلمام بأهمية ودور الإدارة فــــي تنفيذ السياسات العامــــة :تصبح الدولة في هذه المرحلة مدركة لأهمية التنمية الإدارية وما يمكن أن تحققه للمجتمـــــــــع .
ب - مرحلة الاهتمام بسياسات التنمية الإدارية :وخلال هذه المرحلة تبدأ الدولة في النظر في كيفية الاستفادة من المزايا التي تحققها برامج التنمية الإداريــــة باتجاه مسار تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ .
ج- مرحلة تطبيق وتنفيذ سياسات التنمية الإداريــــة :وفي هذه المرحلة تبدأ الدولة في وضع برامج التنمية الإدارية التي تقتنع به ، موضع التنفيذ من خلال ا لقرارات التنفيذية وهياكل تنفيذ سياسات التنمية الإدارية .
ثالثا ً- تقويم سياسات التنمية الإدارية :
يهدف تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية إلى تحديد أهم مشكلاتها وتوضيح طرق مواجهتها ، وبيان فاعلية تلك السياسات في تحقيق الأهداف العامة المزمعة ،لإعادة تصميم السياسة العامة حتى تلائم المتغيرات البيئية المحيطة .
بناء عليه ؛ يعتبر تقويم سياسات التنمية الإدارية أحد المستويات التحليلية الرئيسة المستخدمة في بحوث تحليل السياسات العامة للتنمية الإدارية ، وهي عملية تتسم بكونها عملية تحليلية منسقة تهدف إلى مقارنة تطابق الواقع الفعلي لتنفيذ السياسات العامة مع الأداء المعياري المستهدف بواسطة معايير ومؤشــــــرات محددة تخص تطبيق وتنفيذ تلك السياســـــات .
وقد زاد الباحثون المتخصصون في مجال الإدارة وتحليل السياسات العامة من انشغالهم بعملية تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية وقد كان ذلك وليداً للأسباب التالية :-
1- تنامي الإنفاق العام للجهاز الإداري في ضوء التناقص النسبي في الموارد في كثيرٍ من الدول .
2- ضعف أداء سياسات التنمية الإدارية وفشلها في أحيان ومجالاتٍ كثيرة في تحقيق الأهداف العامـــة .
3- ارتفاع مستوى التوقعات الاجتماعية من خدمات الإدارة ، وتوقع أن تصل إلى تلبية حاجات ومطالب الناس بشكل كامـــل .
4- التحولات في السياسات العامة الإدارية للدولة نحو القطاع الخاص ، والعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ، وعادة ما تظهر هذه التحولات في قرارات صنع السياسة العامة التشـــريعيـة.
ويبرز وفقا ً للأسباب آنفة الذكر التقويم المتعلق بالإطار الهيكلي والإداري في سياسات التنمية الإدارية وفاعليتها في إنجاز الخطط والأهداف والارتقاء بالمستوى المعيشي للأفراد في داخل المجتمع ، وتناسبه مع موارد الدولة كذلك عوامل التخطيط ، واستقرار إدارة السياسات العامة ، درجة الشفافية ، والحكم الرشيد في إدارة الدولة .
و يوضح الشكل رقم 1 أدناه موقع التنمية الإدارية من عملية التنمية الشاملـة ، ودور التنمية الإدارية في تحقيق أهداف المجتمع ن خلال سياسات التنمية الإداريـــــــــــة .
الشكل رقم 1
سياسات التنمية الإدارية و أهداف المجتمع

رابعاً -استخدام المؤشرات الأساسية في تقويم سياسات التنمية الإداريـــــة :
يسعى تقويم تنفيذ السياسات العامة إلى الكشف عن الانحرافات في تنفيذ السياسات العامة ، ودراسة أسباب هذه الانحرافات ، وقد ركز الباحثون في مجال تحليل سياسات التنمية الإدارية على معايير الكفاءة والكفاية في تلك السياسات العامة ؛ حيث عرفت فاعلية السياسة العامة بأنها : " المدى الذي تحققه السياسة من المنافع والفوائد الذي ينبغي عليها أن تحققه ، مع عدم إغفــال النتائج غير المرتقبــــة" "" .
وفي هذا الصدد توجد جملة من المؤشرات الأساسية التي تعارف عليها الباحثون في تحليل سياسات التنمية الإدارية والتي منها :
مؤشر متوسط الدخل الفردي في الدولة .
مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية .
مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع .
مؤشرات الحكم الرشيد Good Governance والمؤشرات المرتبطة به والتي تخص الأداء المؤسسي للدولة مثل:مؤشر فاعلية الإدارة الحكومية ، ومؤشر التنظيم والضبط الدوليين .
مؤشر مدركات الفساد الدولي Corruption Preception Index
المؤشرات المتصلة بالاستقرار الإداري في داخل الدولة .
حيث أن هذه المؤشـــرات هي متصلة ببعضها البعض في الواقع العملي لسياسات التنمية الإدارية ، وهذا ما يتضح من خلال اعتماد مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع على كلٍ من مؤشري متوسط الدخل الفردي ومؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية فــي الدولة ، في حين تترابط مؤشــرات الحكم الرشيد والشفافية الدولية بالجانب المتعلق بتطوير القدرات المؤسسية للدولـــــة .
و يبين الجدول التالي مستويا ت المعيشة لدى مجموعةٍ مختارةٍ من الدول ، وباستطاعة القارئ
أن يلاحظ في يسر أن الدول ذا ت الدخل العالي المرتفع ليست بالضرورة هي تلك التي تمتلك موارد طبيعية كثيرة ، فما هو السبب يا ترى ؟
جدول رقم 1
متوسط الدخل الفردي ( (PPP لمجموعة مختارة من الدول
(إحصائية 2006*)
الدولة
متوسط الدخل الفردي
لوكسمبورج
$ 55,000
هونج كونج
$ 37,400
سويسرا
$ 35,500
سنغافورة
$ 29,300
جبل طارق
$ 27,900
موناكو
$ 27,000
السعودية
$ 12,900
ليبيا
$ 8,400
نيجيريا
$ 1,000
الكونغو الديمقراطية
$ 800
كما يوضح الشكل رقم (1) أدناه مقارنات بين الدول وفق مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية في داخل المجتمع .
الشكل رقم 2
مقارنات بين بعض الدول حسب مقياس دخل الفرد والموارد

و قد تطورت مؤشرات قياس التنمية الإدارية لدرجة أنه لم يعد يكتفى حتى بمؤشر متوسط الدخل الفردي للدلالة على المستوي المعيشي لمجتمع ما ، وإنما تم تطوير معايير إدارية أخري لعل من أهمها مؤشر مستوى جودة الحياة (Quality of Life Indexالذي يأخذ بعين الاعتبار درجة الرقي في مناحي الحياة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وأمن ورفاهية في الحياة ، وقد بين هذا المؤشر الدولي بأن ليبيا تحتـــل المرتبة رقم 70 من بين 111 دولة في العالم بمقدار 5.849 نقطة علـــى سلم الإنجاز .
كما أصبحت هناك مفاهيم أساسية في هذا الصدد تأتي على رأس أولويات المجتمعات بمختلف مكوناتها ( من حكومات ، ومنظمات مدنية ، وأفراد ، وغير ذ لك ) . ومن أبرز هذه المفاهيم التي يجري تداولها حالياً بشكل واسع ، والتي هي على علاقة وطيدة بعملية التنمية الشاملة ، ما أصبح يعرف باسم " الحكم الرشيد" Good Governance" "، الذي يعني الحكم هنا ليس بمعناه السياسي البحت ، وإنما تدخل الإدارة السياسية في هذا المفهوم بالقد ر الذي تؤثر فيه نشاطاتها على عملية التنمية الشاملـــة ؛ فقد عرف البنك الدولي الحكم الرشيد بأنه : " تلك الحالة التي يتم من خلالها إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع بأسلوب رشيد بهدف تحقيق التنمية"، أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP فقد عرف الحكم الرشيد بأنه : " ممارسة السلطات الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة وتنظيـم شؤون المجتمع على كافة مستوياته بطريقة رشيدة" .
حيث تبرز في هذا الصدد مؤشرات الأداء المؤسسي المنبثقة من مؤشر الحكم الرشيد الدولي ومنها مؤشرات فاعلية إدارة الحكومة الذي طوره البنك الدولي و برنامج الأمم المتحدة الإنمائـــي UNDPضمن برنامج تطوير إدارة الحكم للدول العربيـــــة POGAR ، والذي يعرف علمياً بأنه " ذلك المؤشر ا لذاتي الدال على أسلوب" إدارة الحكم في الدولة والذي تم تجميع عناصره من مصادر مختلفة ؛ حيث يقيس الإدراكات الحسية لنوعية الجهاز الإداري البيروقراطي ، تكاليف المعاملات الإدارية ، نوعية الرعاية الصحية والخدمات العامة ، ودرجة استقرار الحكومة ، وتتراوح تقديرات المؤشر ما بيـــن -2.5 و +2.5 والقيــم العليا تعتبر الأفضل حسب التصنيف الدولي .
ويبرز في مجال تقويم سياسات التنمية الإدارية كذلك المؤشر الدولي الآخر المتصل بنوعية التنظيم الإداري والضبط للسياسات العامة داخل الدولة ، والذي عرفه البنك الدولي بأنـــه يعني : " ذلك" المؤشر الذاتي الذي يوفر قياساً لإدارة الحكم والتنمية الإدارية في الدولة من خلال تجميع عناصر من مصادر مختلفة تقيس الإدراكات الحسية لمدى حدوث سياساتٍ عامة غير ودية حيال السوق والتجارة (كتدابير التحكم بالأسعار والرقابة غير الوافية على البنوك) ، والإدراكات الحسية السائدة للأعباء الناجمة عن الضبط المفرط في مجالاتٍ مثل التجارة الخارجية وتأسيس المشاريع التجارية ؛ حيث تتراوح تقديرات المؤشر مــا بين -2.5 و + 2.5 والقيم العليا هي الأفضل حسب هذا المؤشر الدولي ، هذا وسيتم بيان التطبيقات العملية لقيم المؤشرات سابقة الذكر على ليبيا وذلك في القسم الثاني من هذا البحث .
المحور الثاني: سياسات التنمية الإدارية في ليبيا
أولاُ - أهمية بعد التنمية الإدارية في السياسات العامة للدولة الليبيــــة :
هناك أسباب رئيسة تدعو للاهتمام بقضايا التنمية الإدارية ، لعل من أهمها :
1- خلق جهاز إداري فعّال وذي كفاءة عالية ، فالكثير من المختنقات والمشكلات التي تواجه المجتمع يتم التعامل معها بكفاءة لحظة ظهورها ، وقبل أن تستفحل إذا كان الجهاز الإداري فعّالا ويؤدي وظائفه بالشكل المطلوب . أما إذا كان هذا الجهاز غير مستقر وغير قادر على أداء مهامه ؛ فإن أبسط الأمور يتحول إلى مشكلة مستعصيـــــة .
لننظر على سبيل المثال إلى وضع المدن الليبية الحالي من حيث البني التحتية !
إن معالجة أوضاع هذه المدن قد أصبح الآن في حكم المعجزة وذلك بسبب التراكمات التي تجمعت من حيث رصف الشوارع والطرق ، والمواصلات ، وخدمات التعليم والصحة والأمن العام ، ومعالجة أوضاع المياه والصرف الصحي ، وإصحاح البيئة بشكل عام ، إلى غير ذلك من المشكلات اليومية التي يعايشها سكان هذه المدن ، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع هذا الوضع الذي أدت إليه عدم فعالية الجهاز الإداري ؛ وتبرز هنا قضية التكلفة المالية أيضاً ؛ فعلاج الوضع الحالي بما فيه من مشكلاتٍ متراكمة سوف يكلف أضعاف أضعاف ما كان يمكن أن يكلفه لو أنه تمت معالجتها أولاً بأول وبشكل تدريـجي .
2- دعم الإنجازات التي يتم تحقيقها في مجالات السياسة العامة والتنمية المختلفة من زراعةٍ واستثمار وسياحة وتعليمٍ وصحة وغيرها . إن القيام بإنجازاتٍ في هذه المجالات دون أن تكون لدى الدولة سياسة محددة المعالم في مجال التنمية الإدارية ؛ يجعل الوضع عندئذٍ كمن يحرث في البحر كمــا يقــــال ! .
3- دعم جهود الإصلاح السياسي للدولة ، والذي ينحرف في العادة عن أداء مهامه بشكل صحيح ما لم يكن الجهاز الإداري وسياسات التنمية الإدارية بشكل عام في المستوى المناسب لــــــه .
4- دعم الثقة بين المواطن والدولة ؛ فليس هناك أسوأ لأي مجتمع من المجتمعات من فقدان الثقة بين المواطن والدولة ؛ الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق مجتمع مأزوم مهزومٍ من الداخل ، والى إجهاض أية محاولاتٍ للإصلاح على أي مستوىً كان .
ثانياً - العوامل الأساسية لإنجاح سياسات التنمية الإدارية في ليبيا :
هناك العديد من العوامل التي ينبغي توافرها لكي يمكن لسياسات التنمية الإدارية أن تحقق أغراضها ، ومن أهم هذه العوامل ما يلي :-
1- النظرة الاستراتيجية للأمور، فمن المعروف أن هذه النظرة الاستراتيجية (Vision) هي حجر الأساس في أية منظومة للأهداف والغايات والرؤى الإدارية الاستراتيجية. وما لم يتم التركيز على هذه النظرة الاستراتيجية في معالجة قضايا التنمية الإدارية ؛ فإن جهود التنمية سوف تأتي مبتسرة غير ناضجة ، ولا تحيط بأبعاد الموضوع جميعهــــا .
2- وجود دافعية كافية لدى جميع المشاركين في برامج التنمية الإدارية ، وخاصة القياديين منهم ، وهذه الدافعية يمكن الوصول إليها من عدة طرق ، من أهمها خلق القناعة لدى المشاركين في هذه البرامج ، والإيمان بها بعد فهمها الفهم الصحيح ، حتى يتسنى شرحها للآخرين وتطبيقها والدفاع عنهـــا .
3- توفر عنصر الثقة بالنفس لدى هؤلاء المشاركين ، وبأنهم قادرون على تنفيذ ما يوكل إليهم من برامج ، ويلعب عنصرا الخبرة والتدريب المناسبين أساساً قوياً لبناء مثل هذه الثقة .
4- الرغبة والاستعداد في تحمل قدر من المخاطرة عند تخطيط و تنفيذ هذه البرامج ، فالركون إلى السكينة والدعة والإفراط في الحذر وعدم أخذ زمام المبادرة هي من أسوأ ما يمكن أن يتصف به القائمـــــون على مثل هذه البرامــــــج .
5- المقدرة على اتخاذ القرارات في الوقت المناسب؛ فالقرار الصحيح – إضافة إلى أبعاده الموضوعية – له أيضا إطار زمني ينبغي أن يتخذ من خلاله ، وإلا فقد أهميته العملية .
6- توفر المهارات المناسبة والخاصة بالمستوى الإداري الذي يوجد به منفذو برامج التنمية الإدارية ، كما يلاحظ من الشكل التوضيحي رقـم (3) أدناه.
7- توفر مهارات الاتصال مع الآخرين ؛ فبرامج التنمية الإدارية – لكي تنجح – يجب أن نطبق عليها ما تم تطويره في علم الإدارة من مهاراتٍ في مجال التسويق والتواصل مع الجهات والأفراد المستهدفين بتلك البرامج . إن الأفكار والخدمات يمكن أن يتم إخضاعها لمفاهيم التسويق التي يجري استخدامها في تسويق المنتجات المادية(Megamarketing) ، مع مراعاة الفروق النسبية في هذا الشأن .
الشكل رقم 3
المهارات الإدارية في رسم سياسات التنمية الإدارية

ثالثاً- معايير أساسية لقياس درجة التنمية الإدارية :
هناك مجموعة من المقاييس السريعة التي يمكن من خلالها الحكم على درجة ومستوى الإنجاز في سياسات التنمية الإدارية في أي مجتمع ، وتحديد مرحلة التنمية الإدارية التي يمر بها ذلك المجتمع ، ومن أمثلة هذه المقاييس الداعمة للمؤشرات الأساسية سابقة الذكر والتي يمكن تطبيقها على ليبيا بغرض الارتقاء ببرامج التنمية الإدارية فيها :
عدد الكتب المنشورة عن الإدارة في بلد ما في خلال فترة زمنية معينة (سنة مثلاً).
عدد الدوريات المتخصصة في الإدارة التي تصدر في ذلك البلد .
عدد المقالات التي تنشر عن الإدارة في ذلك البلد خلال الفترة الزمنية المحددة .
عدد برامج التدريب الإداري التي يتم تنفيذها خلال سنة .
عدد مدارس ومعاهد ومراكز وكليات الإدارة المتخصصة .
عدد المؤتمرات الإدارية المتخصصة التي تعقد خلال سنة .
عدد مشروعات البحوث الإدارية التي يتم القيام بها خلال سنة .
درجة جودة هذه المعايير جميعها ، وما إذا كانت هذه المعايير ترقى إلى المستويات المتعارف عليها دوليــــاً .
رابعاً - الأسباب الرئيسة لفشل برامج وسياسات التنمية الإدارية في ليبيا :
هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى فشل برامج التنمية الإدارية ، ما لم يتم اتخاذ الاحتياطات المناسبة لتجنب هذه الأسباب ، ومن أهم أسباب فشل برامج التنمية الإداريــة ما يلـــــي :
أ-الفشل في تحديد الأولويات بالشكل الصحيح ، فقد يتم مثلا إعطاء الأولوية لقضايا التنمية السياسية أو ما في حكمها علي حساب برامج التنمية الإدارية الحقيقية ، وهذا الخطأ هو ما وقعت فيه الإدارة الليبية خلال العقود الثلاثة الماضية ؛ بحيث أدت رغبة الدولة في إعطاء الأولوية لبرامج التنمية السياسية على حساب أولويات التنمية الإدارية إلى إيجاد كوادر وأطر إدارية عاجزة عن القيام بمهامها بالشكل الصحيح ،وأفسحت المجال أمام أولويات واعتبارات أخرى مثل الاعتبارات و الموازنات القبلية،التي لم يعد لها مكان في النظم الإدارية المعاصرة.
ب-غياب التدريب الفعّال للقيادات الإدارية التي تلعب دور العامل الحفّاز في تنفيذ برامج التنمية الإدارية . هناك غياب للتدريب الفعال في الإدارة الليبية سواء أكان ذلك من حيث الكم أو الكيف ، فمن حيث الكم لا يزال عدد مؤسسات التدريب الإداري محدوداً بدرجة كبيرة ، ولذلك أسباب رئيسة ثلاثة:-
الأول : وقوع العبء الأكبر لبرامج التدريب الإداري على عاتق الدولة ، حيث أن مساهمات القطاع الأهلي في هذا الشأن لا تزال محدودة بشكل كبير .
الثاني: عـدم انفتاح الإدارة الليبية خلال العقود الماضية على مؤسسات التدريب الدولية ، لا يجد المرء مبرراً لذلك إلا محدودية الإمكانيات الفنية لدى العناصر التي تتولى تسيير هذه الأمــــور .
الثالث: غياب الدور ا لفعّال لمؤسسة التدريب الرئيسية في الدولة ،المعهد الوطني للإدارة ، الذي يعتبر - من حيث إنشاؤه - من أوائل المؤسسات الرائدة في الوطن العربي ، بل وفي العالم الثالث ؛ حيث تم إنشاؤه بمعونة من الأمم المتحدة منذ الخمسينيات من القرن الماضي ، ولكنه رضي لنفسه خلال كل هذه السنوات بدور متواضعٍ جداً يمارس من خلاله برامج جامدة تتميز بالرتابة والتكرار وعدم الفعالية .
إن أمثال هذا المعهد في بعض الدول كفرنسا مثلاً (المدرسة الوطنية للإدارةENAP ) يأتي في أعلى مراتب الدولة ، لدرجة أن رؤساء فرنسا يمرون من خلال دراستهم بتلك المدرسة ، ناهيك عن الوزراء وغيرهم من كبار المسؤولين في الدولة .
عدم ثبات الجهاز الإداري وتعرضه للكثير من التقلبات غير المدروسة وغير المبررة علي أسسٍ موضوعية تراعي مصلحة الجهاز الإداري ، فكثيراً ما نجد مثلاً أن أمانة ( وزارة ) أو هيئة أو مؤسسة ما تلغى ثم يعاد إنشاؤها مرة أخرى ، ثم تلغى ربما لمرات ومرات دون أن يكون هناك سبب منطقي لما يجري !
التغير السريع في البيئة المحيطة بالجهاز الإداري بشكلٍ عادة ما يفقده توازنه ، وبالتالي عدم قدرة هذا الجهاز على القيام بأية عملية تنميةٍ إداريةٍ حقيقية ، وتلعب الدولة هنا ما يمكن تسميته بالأثر المغناطيسي ؛ بحيث يظل هذا الجهاز ينجذ ب وراء سياسات الدولة حتى وإن كانت هذه السياسات هي في غير صالحة من منطلق إداري بحت .
وقد يؤدي مثل هذا الوضع المربك بالقيادات الإدارية إلى عدم التركيز على برامج التنمية الإدارية التي تتسم بالكفاءة والكفاية ( المربع الأعلى من الناحية اليمنى في الشكل رقم (4) أدناه ) ، وهذا هو الوضع الأمثل ، وربما تختلط الأمور عليهم ويقل مستوى الدعم السياسي والمادي الذي يتلقونه فيجدون أنفسهم مكرهين في المربع الأسفل من ناحية اليسار في نفس الشكل رقم(4) وهو وضع لا في العير ولا في النفير كما يقال !
الشكل رقم 4
مستويات الكفاءة والكفاية الإدارية

خامساً - الأبعاد الرئيسة لعملية إحداث التنمية الإدارية في ليبيا :
يمكن النظر إلى عملية التنمية الإدارية على أنها تستند إلى مجموعة من العناصر لعل من أهمها :
أ‌. القيادات الإدارية :
لا يمكن لأية سياسةٍ عامة للتنمية الإدارية أن تنجح بدون وجود القيادات الإدارية الفاعلة التي تتبنى أهداف المنظمة ، وتكون قادرةً على فهمها وتنفيذها بالشكل الصحيح .
ولعل هذه هي إحدى المعضلات التي واجهت سياسات التنمية الإدارية في ليبيا خلال العقود الماضية ؛ فمن المعروف لدينا جميعاً أن الدولة الليبية قد تبنت مبدأ الولاء السياسي (والقبلي في بعض الأحيان) لاختيار قياداتها ، بغض النظر عن قدرة هذه القيادات علي إنجاز مهامها من الناحية المهنية البحتة ، ومثل هذا الأمر يحدث استثناء في أغلب المجتمعات إن لم نقل كلها ، ولكن المشكلة بالنسبة للإدارة الليبية أن هذا الأمر أصبح هو القاعدة وليس الاستثنــــــاء .
وفي استبيان جزئي تم استطلاع آراء عينة ( Sample Convenience ) من أعضاء هيئة التدريس بجامعة قار يونس حول أهم الأسس المناسبة لاختيار القيادات الإدارية في الدولـــة ، وقد اتضح من نتائج ذلك ما يلي:-
1- يرى 12.5 % فقد من أفراد عينة البحث أن المؤهل العلمي المناسب تجري مراعاته عند اختيار القيادات الإدارية الحالية ، في حين يرى 85 %من أفراد العينة أن هذا الأساس ينبغي مراعاته عند اختيار القيادات ، وقد يمكن تفسير هذا الاهتمام الكبير بقضية المؤهل العلمي إلى طبيعة التكوين الخاص لأعضاء هيئة التدريس الجامعي ؛ حيث يلعب المؤهل العلمي دوراً حاسماً فـــي هذا التكوين .
2- يرى 35% من عينة البحث أن الانتماء القبلي يتم أخذه بعين الاعتبار حالياً في اختيار القيادات الإدارية ، في حين يعتقد 2.5 % فقط من أفراد عينة البحث أن هذا الأساس يجب أن يؤخذ بعين الاعتبـــار .
3- يرى 55 % من عينة البحث أن عنصر الولاء السياسي يتم التركيز عليه حالياً عند اختيار القيادات الإدارية ، في حين يعتقد 10 % فقط من أفراد العينة أن هذا الأساس من أسس اختيار القيادات الإدارية يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار .
ويبين الجدولان رقم (2) والجدول رقم (3) النسب المئوية لتوزيع إجابات المشاركين في عينة البحث .
الجدول رقم 2
النسبة المئوية لدرجات أهمية أسس اختيار القيادات في الإدارة الليبية

التسميات: