الخميس، 11 سبتمبر 2008

السياسات العامة والتنمية الادارية

< ع ;">السياسات العامة للتنمية الإدارية - ;">المؤتمر الوطني الأول للسياسات العامة في ليبيا

جامعة قاريونس ـ بنغازي
(11-13 يونيو 2007)
السياسات العامة للتنمية الإدارية
منظور كلي
د. أبو بكر مصطفى بعيرة
أستاذ التنظيم والإدارة
الجامعة الأميركية- American University
تقديم عام :
يعتبر مجال السياسات العامة مجالاً مرتبطاً ارتباطا ً وثيقا ً بالمشكلات العامة والمثيرة للجدل والتي تبرز في الحياة العامة اليومية ، كما يعد هذا الحقل قديماً في الممارسة لارتباطه بتلك المشكلات ، ومستحدثاً على صعيد الدراسة المنهجية العلمية المنتظمة منذ صدور كتاب علوم السياسات الذي نشره كل من ( لاسويل وليرنر ) وحمل عنوان : علوم السياسات العامة .
وفي هذا الصدد تعتبر السياسات العامة في مختلف أوجه نشاط الدولة أساساً لتحقيق أهداف المجتمع ، باعتبار أن أحد أكثر تعريفاتها المتداولة (لكارل فردريك) يميل إلى اعتبارها برنامج الدولة للوصول إلى أهداف وأغراض محددة ، منطلقاً في تعريفه من فكرة أن السياسة العامة تمثل مصلحة المجتمع ، وأن دراستها يجب أن تكون لصيقة بمشاكله العامة وتعبر عن السير باتجاه تحقيق أهدافه العامـــة .
ونظراً لكون السياسة العامة تعني بحل المشكلات العامة ؛ فقد نٌظر إليها على أنها تمثل " برنامج العمل الهادف الذي يتبعه أداء فردي أو جماعي في التصدي لمشكلة أو مواجهة قضية أو موضوع ما" ، بغية أهداف المجتمع العامة وذلك في شكل تنميةٍ شاملةٍ تغطي مختلف مناحي الحياة فيـــه والتي تشير إلى قيام مجموعة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والبيئية التي تحدث نوعاً من التطوير والتحديث للارتقاء بمستوى معيشة السكان الوطنيين. وبقدر جودة تلك السياسات ووضوحها يكون مقدار تقدم ذلك المجتمع وبلوغه لأهدافه العامـــــة .
المحور الأول: سياسات التنمية الإدارية : نظرة عامة
أولاً- مفهوم سياسات التنمية الإدارية :
لقد سادت خلال الفترة الماضية ، وخاصة فترة ما بعد الحربين العالميتين الأولــى و الثانية ، الاهتمامات المتنامية بقضايا التنمية الاقتصادية ؛ حيث أنها كانت المفهوم الأكثر وضوحاً خلا ل تلك الفترة ، ولم يكن للتنمية الإدارية وقضاياها أي نصيب في كتابا ت رواد تلك الحقبة من أمثال جون ماينارد كينز 1946-1883)) وج. شومبيتر (1950-1883) وغيرهم ، الذين كان اهتمامهم منصباً بشكل أساسي على قضايا التنمية من منظور اقتصادي بحت .
وحتى عندما تحدث شومبيتر عما يعتبر الآن ركنا أساسياً من أركان التنمية الإدارية وهو ما يعرف الآن بال (Entrepreneur) ، فقد تحدث عنه على أنه يمثل أحد عناصر العملية الاقتصاديـــة ؛ حيث أطلق عليه اسم ( المنظم ( Organizer الذي يجمع مدخلات العملية الإنتاجية مع بعضها البعض ، من مواد خام ورأسمال وآلات وقوى عاملة .
إلا أن الفترة الأخيرة قد حملت تزايداً في الاهتمام بمحورين أساسيين في قضية تحقيق التنمية الاقتصادية والنهوض بمستوى معيشة الناس ، ألا وهما محـــورا الإدارة ومحور السياسات العامة التي تنشد تحقيق التنمية عن طريق ماعرف بالإدارة الرشيدة ، وهو ما عزز يقين الكثير من الباحثين بأن هناك حلقة مفقودة في قضايا ا لتنمية تؤدي إلى عرقلة جهود التقدم دون أن يتم التطرق إليها بشكلٍ مباشر .
فقد لوحظ بشكل واضح بأن هناك الكثير من المجتمعات التي تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية ، ولكنها تعاني من تأخر اقتصادي وتخلف واضح في جهود التنمية ؛ في حين أن هناك مجتمعات أخرى تمتلك موارد طبيعية أ قل ، ولكنها تتمتع بمستويات معيشةٍ أعلى بسبب حسن إدارتها لتلك الموارد .
وفي هذا الصدد فقد مهدت كتابات بعض رواد الفكر الإداري من أمثال الأمريكي فريدريك تيلور، والفرنسي هنري فايول إلى بروز الحديث عن الإدارة كموضوعٍ مستقل يمكن أ ن يتم تطوير نظرية خاصة بــــــه .
وبدأت الأصوات المنادية بضرورة دراسة الدور الأساسي الذي تلعبه الإدارة في تحقيق أهداف السياسات العامة وصولاً إلى التنمية الشاملة في داخل المجتمع .
ومن هنا ظهر البعد الجد يد للنظر إلى عملية التنمية الشاملة من منطلق إداري ، وبرز كتّاب معاصرون اهتموا بهذا البعد الإداري ، وخاصة الجانب المقارن منه ؛ من أمثال هارولد كونتز ، وتشستر بارنارد ، وهربرت سايمون ، وباري ريتشمان ، وكريس آرجيريس ، ورنسس ليكرت وغيرهم من كتّاب الثورة الإدارية المعاصرة وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ حيث يصعب على المرء تتبّع ما ينشر حول الإدارة من كتب ومقالاتٍ وبحوثٍ وندوات وغيرها ، وذلك لكثرة عددها .
وقد شملت هذه النظرة الجديدة التطرق إلى دور التنمية الإدارية من خلال تعريف عملية الإدارة نفسها ، لتعكس هذا الفهم الجديد الكلي ، فلم يعد ينظر إلى الإدارة فقط على أنها " ... عملية إنجاز الأعمال عن طريق الآخرين " ، وإنما أعيدت صياغة تعريفها ليشير إلى أن الإدارة في المستوى الكلي " ... هي عبارة عن عملية التحكم في الموارد المتاحة في مجتمع ما ، وذلك قصد تقديم مستوي معيشي معين" " "
وتأسيساً على الدور المحوري الذي تلعبه الإدارة في علمية تنفيذ أهداف السياسات العامة؛ فقد انضم الباحثون المتخصصون في مجال السياسات العامة إلى باحثي علم الإدارة في تركيزهم على الأهمية المحورية للإدارة في تحقيق الأهداف من خلال مؤشراتها الأساسية المتصلة بمجموعة الجوانب والمبادئ التنظيمية والإدارية المتعلقة بنظام السياسة العامة والبرامج الحكومية ، كالاستقرار الإداري والكفاءة الإدارية والشفافية والجودة ...الخ .
فبرز نتيجة لذلك التوافق بين الباحثين ، مفهوم سياسات التنمية الإدارية ؛ فإذا ماكان مفهوم التنمية الإدارية يشير في معناه العام إلى قيام مجموعة الأنشطة الإدارية التي تحدث نوعاً من التطوير والتحديث للارتقاء بمستوى معيشة السكان الوطنيين ؛ فإن سياسات التنمية الإدارية وفقاً لذلك تعني مجموعة البرامج والأهداف العامة الأساسية التي تصاحبها القرارات الأفعال التنفيذية والتي تهدف إلى الارتقاء بمستوى معيشة السكان وإحداث التطوير والارتقاء في داخل المجتمع .
ثانيا ً - مراحل التنمية الإدارية والسياسات العامة :
يمكن بشكل عام التمييز بين مراحل مختلفة يمكن تصنيف أي مجتمع من المجتمعات من خلالها علي أساس مدي اهتمامه بقضايا التنمية الإدارية ، ويمكن إجمالا اختصار هذه المراحل في الآتــــي : -
أ- مرحلة الوعي أو الإلمام بأهمية ودور الإدارة فــــي تنفيذ السياسات العامــــة :تصبح الدولة في هذه المرحلة مدركة لأهمية التنمية الإدارية وما يمكن أن تحققه للمجتمـــــــــع .
ب - مرحلة الاهتمام بسياسات التنمية الإدارية :وخلال هذه المرحلة تبدأ الدولة في النظر في كيفية الاستفادة من المزايا التي تحققها برامج التنمية الإداريــــة باتجاه مسار تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ .
ج- مرحلة تطبيق وتنفيذ سياسات التنمية الإداريــــة :وفي هذه المرحلة تبدأ الدولة في وضع برامج التنمية الإدارية التي تقتنع به ، موضع التنفيذ من خلال ا لقرارات التنفيذية وهياكل تنفيذ سياسات التنمية الإدارية .
ثالثا ً- تقويم سياسات التنمية الإدارية :
يهدف تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية إلى تحديد أهم مشكلاتها وتوضيح طرق مواجهتها ، وبيان فاعلية تلك السياسات في تحقيق الأهداف العامة المزمعة ،لإعادة تصميم السياسة العامة حتى تلائم المتغيرات البيئية المحيطة .
بناء عليه ؛ يعتبر تقويم سياسات التنمية الإدارية أحد المستويات التحليلية الرئيسة المستخدمة في بحوث تحليل السياسات العامة للتنمية الإدارية ، وهي عملية تتسم بكونها عملية تحليلية منسقة تهدف إلى مقارنة تطابق الواقع الفعلي لتنفيذ السياسات العامة مع الأداء المعياري المستهدف بواسطة معايير ومؤشــــــرات محددة تخص تطبيق وتنفيذ تلك السياســـــات .
وقد زاد الباحثون المتخصصون في مجال الإدارة وتحليل السياسات العامة من انشغالهم بعملية تقويم الأداء التنفيذي لسياسات التنمية الإدارية وقد كان ذلك وليداً للأسباب التالية :-
1- تنامي الإنفاق العام للجهاز الإداري في ضوء التناقص النسبي في الموارد في كثيرٍ من الدول .
2- ضعف أداء سياسات التنمية الإدارية وفشلها في أحيان ومجالاتٍ كثيرة في تحقيق الأهداف العامـــة .
3- ارتفاع مستوى التوقعات الاجتماعية من خدمات الإدارة ، وتوقع أن تصل إلى تلبية حاجات ومطالب الناس بشكل كامـــل .
4- التحولات في السياسات العامة الإدارية للدولة نحو القطاع الخاص ، والعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص ، وعادة ما تظهر هذه التحولات في قرارات صنع السياسة العامة التشـــريعيـة.
ويبرز وفقا ً للأسباب آنفة الذكر التقويم المتعلق بالإطار الهيكلي والإداري في سياسات التنمية الإدارية وفاعليتها في إنجاز الخطط والأهداف والارتقاء بالمستوى المعيشي للأفراد في داخل المجتمع ، وتناسبه مع موارد الدولة كذلك عوامل التخطيط ، واستقرار إدارة السياسات العامة ، درجة الشفافية ، والحكم الرشيد في إدارة الدولة .
و يوضح الشكل رقم 1 أدناه موقع التنمية الإدارية من عملية التنمية الشاملـة ، ودور التنمية الإدارية في تحقيق أهداف المجتمع ن خلال سياسات التنمية الإداريـــــــــــة .
الشكل رقم 1
سياسات التنمية الإدارية و أهداف المجتمع

رابعاً -استخدام المؤشرات الأساسية في تقويم سياسات التنمية الإداريـــــة :
يسعى تقويم تنفيذ السياسات العامة إلى الكشف عن الانحرافات في تنفيذ السياسات العامة ، ودراسة أسباب هذه الانحرافات ، وقد ركز الباحثون في مجال تحليل سياسات التنمية الإدارية على معايير الكفاءة والكفاية في تلك السياسات العامة ؛ حيث عرفت فاعلية السياسة العامة بأنها : " المدى الذي تحققه السياسة من المنافع والفوائد الذي ينبغي عليها أن تحققه ، مع عدم إغفــال النتائج غير المرتقبــــة" "" .
وفي هذا الصدد توجد جملة من المؤشرات الأساسية التي تعارف عليها الباحثون في تحليل سياسات التنمية الإدارية والتي منها :
مؤشر متوسط الدخل الفردي في الدولة .
مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية .
مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع .
مؤشرات الحكم الرشيد Good Governance والمؤشرات المرتبطة به والتي تخص الأداء المؤسسي للدولة مثل:مؤشر فاعلية الإدارة الحكومية ، ومؤشر التنظيم والضبط الدوليين .
مؤشر مدركات الفساد الدولي Corruption Preception Index
المؤشرات المتصلة بالاستقرار الإداري في داخل الدولة .
حيث أن هذه المؤشـــرات هي متصلة ببعضها البعض في الواقع العملي لسياسات التنمية الإدارية ، وهذا ما يتضح من خلال اعتماد مؤشر مستوى جودة الحياة في داخل المجتمع على كلٍ من مؤشري متوسط الدخل الفردي ومؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية فــي الدولة ، في حين تترابط مؤشــرات الحكم الرشيد والشفافية الدولية بالجانب المتعلق بتطوير القدرات المؤسسية للدولـــــة .
و يبين الجدول التالي مستويا ت المعيشة لدى مجموعةٍ مختارةٍ من الدول ، وباستطاعة القارئ
أن يلاحظ في يسر أن الدول ذا ت الدخل العالي المرتفع ليست بالضرورة هي تلك التي تمتلك موارد طبيعية كثيرة ، فما هو السبب يا ترى ؟
جدول رقم 1
متوسط الدخل الفردي ( (PPP لمجموعة مختارة من الدول
(إحصائية 2006*)
الدولة
متوسط الدخل الفردي
لوكسمبورج
$ 55,000
هونج كونج
$ 37,400
سويسرا
$ 35,500
سنغافورة
$ 29,300
جبل طارق
$ 27,900
موناكو
$ 27,000
السعودية
$ 12,900
ليبيا
$ 8,400
نيجيريا
$ 1,000
الكونغو الديمقراطية
$ 800
كما يوضح الشكل رقم (1) أدناه مقارنات بين الدول وفق مؤشر الدخل الفردي والموارد الطبيعية في داخل المجتمع .
الشكل رقم 2
مقارنات بين بعض الدول حسب مقياس دخل الفرد والموارد

و قد تطورت مؤشرات قياس التنمية الإدارية لدرجة أنه لم يعد يكتفى حتى بمؤشر متوسط الدخل الفردي للدلالة على المستوي المعيشي لمجتمع ما ، وإنما تم تطوير معايير إدارية أخري لعل من أهمها مؤشر مستوى جودة الحياة (Quality of Life Indexالذي يأخذ بعين الاعتبار درجة الرقي في مناحي الحياة المختلفة من تعليم وصحة وسكن وأمن ورفاهية في الحياة ، وقد بين هذا المؤشر الدولي بأن ليبيا تحتـــل المرتبة رقم 70 من بين 111 دولة في العالم بمقدار 5.849 نقطة علـــى سلم الإنجاز .
كما أصبحت هناك مفاهيم أساسية في هذا الصدد تأتي على رأس أولويات المجتمعات بمختلف مكوناتها ( من حكومات ، ومنظمات مدنية ، وأفراد ، وغير ذ لك ) . ومن أبرز هذه المفاهيم التي يجري تداولها حالياً بشكل واسع ، والتي هي على علاقة وطيدة بعملية التنمية الشاملة ، ما أصبح يعرف باسم " الحكم الرشيد" Good Governance" "، الذي يعني الحكم هنا ليس بمعناه السياسي البحت ، وإنما تدخل الإدارة السياسية في هذا المفهوم بالقد ر الذي تؤثر فيه نشاطاتها على عملية التنمية الشاملـــة ؛ فقد عرف البنك الدولي الحكم الرشيد بأنه : " تلك الحالة التي يتم من خلالها إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع بأسلوب رشيد بهدف تحقيق التنمية"، أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP فقد عرف الحكم الرشيد بأنه : " ممارسة السلطات الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة وتنظيـم شؤون المجتمع على كافة مستوياته بطريقة رشيدة" .
حيث تبرز في هذا الصدد مؤشرات الأداء المؤسسي المنبثقة من مؤشر الحكم الرشيد الدولي ومنها مؤشرات فاعلية إدارة الحكومة الذي طوره البنك الدولي و برنامج الأمم المتحدة الإنمائـــي UNDPضمن برنامج تطوير إدارة الحكم للدول العربيـــــة POGAR ، والذي يعرف علمياً بأنه " ذلك المؤشر ا لذاتي الدال على أسلوب" إدارة الحكم في الدولة والذي تم تجميع عناصره من مصادر مختلفة ؛ حيث يقيس الإدراكات الحسية لنوعية الجهاز الإداري البيروقراطي ، تكاليف المعاملات الإدارية ، نوعية الرعاية الصحية والخدمات العامة ، ودرجة استقرار الحكومة ، وتتراوح تقديرات المؤشر ما بيـــن -2.5 و +2.5 والقيــم العليا تعتبر الأفضل حسب التصنيف الدولي .
ويبرز في مجال تقويم سياسات التنمية الإدارية كذلك المؤشر الدولي الآخر المتصل بنوعية التنظيم الإداري والضبط للسياسات العامة داخل الدولة ، والذي عرفه البنك الدولي بأنـــه يعني : " ذلك" المؤشر الذاتي الذي يوفر قياساً لإدارة الحكم والتنمية الإدارية في الدولة من خلال تجميع عناصر من مصادر مختلفة تقيس الإدراكات الحسية لمدى حدوث سياساتٍ عامة غير ودية حيال السوق والتجارة (كتدابير التحكم بالأسعار والرقابة غير الوافية على البنوك) ، والإدراكات الحسية السائدة للأعباء الناجمة عن الضبط المفرط في مجالاتٍ مثل التجارة الخارجية وتأسيس المشاريع التجارية ؛ حيث تتراوح تقديرات المؤشر مــا بين -2.5 و + 2.5 والقيم العليا هي الأفضل حسب هذا المؤشر الدولي ، هذا وسيتم بيان التطبيقات العملية لقيم المؤشرات سابقة الذكر على ليبيا وذلك في القسم الثاني من هذا البحث .
المحور الثاني: سياسات التنمية الإدارية في ليبيا
أولاُ - أهمية بعد التنمية الإدارية في السياسات العامة للدولة الليبيــــة :
هناك أسباب رئيسة تدعو للاهتمام بقضايا التنمية الإدارية ، لعل من أهمها :
1- خلق جهاز إداري فعّال وذي كفاءة عالية ، فالكثير من المختنقات والمشكلات التي تواجه المجتمع يتم التعامل معها بكفاءة لحظة ظهورها ، وقبل أن تستفحل إذا كان الجهاز الإداري فعّالا ويؤدي وظائفه بالشكل المطلوب . أما إذا كان هذا الجهاز غير مستقر وغير قادر على أداء مهامه ؛ فإن أبسط الأمور يتحول إلى مشكلة مستعصيـــــة .
لننظر على سبيل المثال إلى وضع المدن الليبية الحالي من حيث البني التحتية !
إن معالجة أوضاع هذه المدن قد أصبح الآن في حكم المعجزة وذلك بسبب التراكمات التي تجمعت من حيث رصف الشوارع والطرق ، والمواصلات ، وخدمات التعليم والصحة والأمن العام ، ومعالجة أوضاع المياه والصرف الصحي ، وإصحاح البيئة بشكل عام ، إلى غير ذلك من المشكلات اليومية التي يعايشها سكان هذه المدن ، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع هذا الوضع الذي أدت إليه عدم فعالية الجهاز الإداري ؛ وتبرز هنا قضية التكلفة المالية أيضاً ؛ فعلاج الوضع الحالي بما فيه من مشكلاتٍ متراكمة سوف يكلف أضعاف أضعاف ما كان يمكن أن يكلفه لو أنه تمت معالجتها أولاً بأول وبشكل تدريـجي .
2- دعم الإنجازات التي يتم تحقيقها في مجالات السياسة العامة والتنمية المختلفة من زراعةٍ واستثمار وسياحة وتعليمٍ وصحة وغيرها . إن القيام بإنجازاتٍ في هذه المجالات دون أن تكون لدى الدولة سياسة محددة المعالم في مجال التنمية الإدارية ؛ يجعل الوضع عندئذٍ كمن يحرث في البحر كمــا يقــــال ! .
3- دعم جهود الإصلاح السياسي للدولة ، والذي ينحرف في العادة عن أداء مهامه بشكل صحيح ما لم يكن الجهاز الإداري وسياسات التنمية الإدارية بشكل عام في المستوى المناسب لــــــه .
4- دعم الثقة بين المواطن والدولة ؛ فليس هناك أسوأ لأي مجتمع من المجتمعات من فقدان الثقة بين المواطن والدولة ؛ الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق مجتمع مأزوم مهزومٍ من الداخل ، والى إجهاض أية محاولاتٍ للإصلاح على أي مستوىً كان .
ثانياً - العوامل الأساسية لإنجاح سياسات التنمية الإدارية في ليبيا :
هناك العديد من العوامل التي ينبغي توافرها لكي يمكن لسياسات التنمية الإدارية أن تحقق أغراضها ، ومن أهم هذه العوامل ما يلي :-
1- النظرة الاستراتيجية للأمور، فمن المعروف أن هذه النظرة الاستراتيجية (Vision) هي حجر الأساس في أية منظومة للأهداف والغايات والرؤى الإدارية الاستراتيجية. وما لم يتم التركيز على هذه النظرة الاستراتيجية في معالجة قضايا التنمية الإدارية ؛ فإن جهود التنمية سوف تأتي مبتسرة غير ناضجة ، ولا تحيط بأبعاد الموضوع جميعهــــا .
2- وجود دافعية كافية لدى جميع المشاركين في برامج التنمية الإدارية ، وخاصة القياديين منهم ، وهذه الدافعية يمكن الوصول إليها من عدة طرق ، من أهمها خلق القناعة لدى المشاركين في هذه البرامج ، والإيمان بها بعد فهمها الفهم الصحيح ، حتى يتسنى شرحها للآخرين وتطبيقها والدفاع عنهـــا .
3- توفر عنصر الثقة بالنفس لدى هؤلاء المشاركين ، وبأنهم قادرون على تنفيذ ما يوكل إليهم من برامج ، ويلعب عنصرا الخبرة والتدريب المناسبين أساساً قوياً لبناء مثل هذه الثقة .
4- الرغبة والاستعداد في تحمل قدر من المخاطرة عند تخطيط و تنفيذ هذه البرامج ، فالركون إلى السكينة والدعة والإفراط في الحذر وعدم أخذ زمام المبادرة هي من أسوأ ما يمكن أن يتصف به القائمـــــون على مثل هذه البرامــــــج .
5- المقدرة على اتخاذ القرارات في الوقت المناسب؛ فالقرار الصحيح – إضافة إلى أبعاده الموضوعية – له أيضا إطار زمني ينبغي أن يتخذ من خلاله ، وإلا فقد أهميته العملية .
6- توفر المهارات المناسبة والخاصة بالمستوى الإداري الذي يوجد به منفذو برامج التنمية الإدارية ، كما يلاحظ من الشكل التوضيحي رقـم (3) أدناه.
7- توفر مهارات الاتصال مع الآخرين ؛ فبرامج التنمية الإدارية – لكي تنجح – يجب أن نطبق عليها ما تم تطويره في علم الإدارة من مهاراتٍ في مجال التسويق والتواصل مع الجهات والأفراد المستهدفين بتلك البرامج . إن الأفكار والخدمات يمكن أن يتم إخضاعها لمفاهيم التسويق التي يجري استخدامها في تسويق المنتجات المادية(Megamarketing) ، مع مراعاة الفروق النسبية في هذا الشأن .
الشكل رقم 3
المهارات الإدارية في رسم سياسات التنمية الإدارية

ثالثاً- معايير أساسية لقياس درجة التنمية الإدارية :
هناك مجموعة من المقاييس السريعة التي يمكن من خلالها الحكم على درجة ومستوى الإنجاز في سياسات التنمية الإدارية في أي مجتمع ، وتحديد مرحلة التنمية الإدارية التي يمر بها ذلك المجتمع ، ومن أمثلة هذه المقاييس الداعمة للمؤشرات الأساسية سابقة الذكر والتي يمكن تطبيقها على ليبيا بغرض الارتقاء ببرامج التنمية الإدارية فيها :
عدد الكتب المنشورة عن الإدارة في بلد ما في خلال فترة زمنية معينة (سنة مثلاً).
عدد الدوريات المتخصصة في الإدارة التي تصدر في ذلك البلد .
عدد المقالات التي تنشر عن الإدارة في ذلك البلد خلال الفترة الزمنية المحددة .
عدد برامج التدريب الإداري التي يتم تنفيذها خلال سنة .
عدد مدارس ومعاهد ومراكز وكليات الإدارة المتخصصة .
عدد المؤتمرات الإدارية المتخصصة التي تعقد خلال سنة .
عدد مشروعات البحوث الإدارية التي يتم القيام بها خلال سنة .
درجة جودة هذه المعايير جميعها ، وما إذا كانت هذه المعايير ترقى إلى المستويات المتعارف عليها دوليــــاً .
رابعاً - الأسباب الرئيسة لفشل برامج وسياسات التنمية الإدارية في ليبيا :
هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى فشل برامج التنمية الإدارية ، ما لم يتم اتخاذ الاحتياطات المناسبة لتجنب هذه الأسباب ، ومن أهم أسباب فشل برامج التنمية الإداريــة ما يلـــــي :
أ-الفشل في تحديد الأولويات بالشكل الصحيح ، فقد يتم مثلا إعطاء الأولوية لقضايا التنمية السياسية أو ما في حكمها علي حساب برامج التنمية الإدارية الحقيقية ، وهذا الخطأ هو ما وقعت فيه الإدارة الليبية خلال العقود الثلاثة الماضية ؛ بحيث أدت رغبة الدولة في إعطاء الأولوية لبرامج التنمية السياسية على حساب أولويات التنمية الإدارية إلى إيجاد كوادر وأطر إدارية عاجزة عن القيام بمهامها بالشكل الصحيح ،وأفسحت المجال أمام أولويات واعتبارات أخرى مثل الاعتبارات و الموازنات القبلية،التي لم يعد لها مكان في النظم الإدارية المعاصرة.
ب-غياب التدريب الفعّال للقيادات الإدارية التي تلعب دور العامل الحفّاز في تنفيذ برامج التنمية الإدارية . هناك غياب للتدريب الفعال في الإدارة الليبية سواء أكان ذلك من حيث الكم أو الكيف ، فمن حيث الكم لا يزال عدد مؤسسات التدريب الإداري محدوداً بدرجة كبيرة ، ولذلك أسباب رئيسة ثلاثة:-
الأول : وقوع العبء الأكبر لبرامج التدريب الإداري على عاتق الدولة ، حيث أن مساهمات القطاع الأهلي في هذا الشأن لا تزال محدودة بشكل كبير .
الثاني: عـدم انفتاح الإدارة الليبية خلال العقود الماضية على مؤسسات التدريب الدولية ، لا يجد المرء مبرراً لذلك إلا محدودية الإمكانيات الفنية لدى العناصر التي تتولى تسيير هذه الأمــــور .
الثالث: غياب الدور ا لفعّال لمؤسسة التدريب الرئيسية في الدولة ،المعهد الوطني للإدارة ، الذي يعتبر - من حيث إنشاؤه - من أوائل المؤسسات الرائدة في الوطن العربي ، بل وفي العالم الثالث ؛ حيث تم إنشاؤه بمعونة من الأمم المتحدة منذ الخمسينيات من القرن الماضي ، ولكنه رضي لنفسه خلال كل هذه السنوات بدور متواضعٍ جداً يمارس من خلاله برامج جامدة تتميز بالرتابة والتكرار وعدم الفعالية .
إن أمثال هذا المعهد في بعض الدول كفرنسا مثلاً (المدرسة الوطنية للإدارةENAP ) يأتي في أعلى مراتب الدولة ، لدرجة أن رؤساء فرنسا يمرون من خلال دراستهم بتلك المدرسة ، ناهيك عن الوزراء وغيرهم من كبار المسؤولين في الدولة .
عدم ثبات الجهاز الإداري وتعرضه للكثير من التقلبات غير المدروسة وغير المبررة علي أسسٍ موضوعية تراعي مصلحة الجهاز الإداري ، فكثيراً ما نجد مثلاً أن أمانة ( وزارة ) أو هيئة أو مؤسسة ما تلغى ثم يعاد إنشاؤها مرة أخرى ، ثم تلغى ربما لمرات ومرات دون أن يكون هناك سبب منطقي لما يجري !
التغير السريع في البيئة المحيطة بالجهاز الإداري بشكلٍ عادة ما يفقده توازنه ، وبالتالي عدم قدرة هذا الجهاز على القيام بأية عملية تنميةٍ إداريةٍ حقيقية ، وتلعب الدولة هنا ما يمكن تسميته بالأثر المغناطيسي ؛ بحيث يظل هذا الجهاز ينجذ ب وراء سياسات الدولة حتى وإن كانت هذه السياسات هي في غير صالحة من منطلق إداري بحت .
وقد يؤدي مثل هذا الوضع المربك بالقيادات الإدارية إلى عدم التركيز على برامج التنمية الإدارية التي تتسم بالكفاءة والكفاية ( المربع الأعلى من الناحية اليمنى في الشكل رقم (4) أدناه ) ، وهذا هو الوضع الأمثل ، وربما تختلط الأمور عليهم ويقل مستوى الدعم السياسي والمادي الذي يتلقونه فيجدون أنفسهم مكرهين في المربع الأسفل من ناحية اليسار في نفس الشكل رقم(4) وهو وضع لا في العير ولا في النفير كما يقال !
الشكل رقم 4
مستويات الكفاءة والكفاية الإدارية

خامساً - الأبعاد الرئيسة لعملية إحداث التنمية الإدارية في ليبيا :
يمكن النظر إلى عملية التنمية الإدارية على أنها تستند إلى مجموعة من العناصر لعل من أهمها :
أ‌. القيادات الإدارية :
لا يمكن لأية سياسةٍ عامة للتنمية الإدارية أن تنجح بدون وجود القيادات الإدارية الفاعلة التي تتبنى أهداف المنظمة ، وتكون قادرةً على فهمها وتنفيذها بالشكل الصحيح .
ولعل هذه هي إحدى المعضلات التي واجهت سياسات التنمية الإدارية في ليبيا خلال العقود الماضية ؛ فمن المعروف لدينا جميعاً أن الدولة الليبية قد تبنت مبدأ الولاء السياسي (والقبلي في بعض الأحيان) لاختيار قياداتها ، بغض النظر عن قدرة هذه القيادات علي إنجاز مهامها من الناحية المهنية البحتة ، ومثل هذا الأمر يحدث استثناء في أغلب المجتمعات إن لم نقل كلها ، ولكن المشكلة بالنسبة للإدارة الليبية أن هذا الأمر أصبح هو القاعدة وليس الاستثنــــــاء .
وفي استبيان جزئي تم استطلاع آراء عينة ( Sample Convenience ) من أعضاء هيئة التدريس بجامعة قار يونس حول أهم الأسس المناسبة لاختيار القيادات الإدارية في الدولـــة ، وقد اتضح من نتائج ذلك ما يلي:-
1- يرى 12.5 % فقد من أفراد عينة البحث أن المؤهل العلمي المناسب تجري مراعاته عند اختيار القيادات الإدارية الحالية ، في حين يرى 85 %من أفراد العينة أن هذا الأساس ينبغي مراعاته عند اختيار القيادات ، وقد يمكن تفسير هذا الاهتمام الكبير بقضية المؤهل العلمي إلى طبيعة التكوين الخاص لأعضاء هيئة التدريس الجامعي ؛ حيث يلعب المؤهل العلمي دوراً حاسماً فـــي هذا التكوين .
2- يرى 35% من عينة البحث أن الانتماء القبلي يتم أخذه بعين الاعتبار حالياً في اختيار القيادات الإدارية ، في حين يعتقد 2.5 % فقط من أفراد عينة البحث أن هذا الأساس يجب أن يؤخذ بعين الاعتبـــار .
3- يرى 55 % من عينة البحث أن عنصر الولاء السياسي يتم التركيز عليه حالياً عند اختيار القيادات الإدارية ، في حين يعتقد 10 % فقط من أفراد العينة أن هذا الأساس من أسس اختيار القيادات الإدارية يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار .
ويبين الجدولان رقم (2) والجدول رقم (3) النسب المئوية لتوزيع إجابات المشاركين في عينة البحث .
الجدول رقم 2
النسبة المئوية لدرجات أهمية أسس اختيار القيادات في الإدارة الليبية

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية